لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

الشاعر أبو العلاء المعري … النباتي الذي رثى “دجاجة” واتهم بالكفر



محمد الموجي- عرف عن الشعراء رثاء الحبيب إذا رحل، ولا يقتصر لفظ “الحبيب” هنا على “المحبوبة” فقط، بل يشمل الأم أو الأب أو الابن أو الأخ، لكن أن يكون هذا الحبيب “ديك رومي أو فرخة” فهذا أمر قد لا يصدقه عقل! لكن الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري فعلها ورثى ديك رومي أُجبر على أكله.

الحكاية تبدأ بيوم مرض المعري نفسه لا الديك أو الفرخة، فعقب أن مرض الرجل مرضًا شديدًا جاءوا إليه بحكيم يصف له علاجًا، وأمر الحكيم بأن يأكل الشاعر “الفروج”، ولما كان المعري ضريرًا فلمس الفروج بيديه فحزن لذبحه ورثاه بمقولة وقصيدة جاء مطلعها “استضعفوك فوصفوك.. هلا وصفوا شبل الأسد؟!”.

ولد أبو العلاء أحمد بن عبدالله بن سليمان… بن قضاعة التنوخي المعري سنة 973 م، وعاش ما يزيد عن ثمانين عامًا ببضعة سنوات، أكل فيهم اللحوم لمدة 45 عامًا فقط، ثم اعتزل أكلها تمامًا وأصبح شخصًا نباتيًا، بل أصبح يصوم أكثر من أي شيء آخر، ويزهد في الحياة فيلبس الخشن ولا يركب الدواب.

حرم أبو العلاء المعري الذي ولد في معرة بين حماة وحلب السورية، أكل اللحوم -على نفسه- بل امتد الأمر لملبسه وما يركبه أيضًا، ونصح آخرين بعدم صيد الحيوانات وأكلها؛ شفقة عليها.

“لأرسم لنفسي برنامجًا أنفذه لنفسي وإن لم أستطع أن أنفذه في غيري، فلا زواج ولا نسل، ولا إيذاء لحي، ولا آكل لحم حيوان بحري ولا بري ولا أفجعه في إنتاجه فلا عسل ولا لبن ولا بيض، بل لا ألبس الجلود، ولا أنتعل بها وانما أكتفي بالنبات، طعامي العدس وفاكهتي الطين، وحبي الكمأة والبقول وشربة الماء من راحتي أو بقدح من الخزف.. وملبسي من القطن، وليكون مركبي رجلاي لا الخيل”.

نقل القول السابق عن المعري، الأستاذ أحمد أمين أستاذ الأدب العربي في كلية الآداب، في فصل عنوانه نظرة المعري للعالم، ونشرته دار الهلال في عدد صحفي خاص عن المعري.

رأى الشاعر المرهف أن صيد هذه الحيوانات شرًا عظيمًا، وتتجلى هذه الرؤية في رأيه في الحياة بشكل عام “ليس الإنسان وحده هو الشر في هذا العالم، بل كل العالم شر فالإنسان يغير على الحيوان ويذبحه ويغتصب منه ولده، ويغتصب لبنه الذي أعده لولده، ويلهو بالصيد والرمي…”.

مواقف عديدة رويت بشأن رفق المعري بالحيوان، وبينها أنه ذات مرة جاءه رجل يسأله لماذا “لا تأكل لحم الحيوان؟” فرد عليه “أرحم الحيوان”، فسأله الرجل “وماذا عن السباع التي لا تأكل إلا لحوم الحيوانات مشددًا أن هذه فطرتها “هكذا خُلقها الله… وما أنت بأرأف منه، وإذا كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملًا. فسكت”.

البعض اتهم المعري بالكفر والإلحاد ومخالفة النصوص القرآنية الصريحة التي منحت الإنسان حق الصيد وأكل اللحوم والكائنات البحرية، فكيف يقول في شعره:

غدَوتَ مريضَ العقلِ والدّينِ فالقَني..  لتسمعَ أنباءَ الأمورِ الصحائحِ

فلا تأكُلْن ما أخرجَ الماء، ظالماً.. ولا تبغِ قوتاً من غريض الذّبائحِ

وأبيَضَ أُمّاتٍ، أرادتْ صريحَه.. لأطفالها دون الغواني الصّرائح

ولا تفجَعَنّ الطّيرَ وهيَ غوافلٌ.. بما وضعتْ، فالظّلمُ شرُّ القبائح

ودعْ ضرَبَ النّحل الذي بكَرت له..  كواسِبَ منْ أزهارِ نبتٍ فوائح

فما أحرزَته كي يكونَ لغيرِها..  ولا جمَعَتْهُ للنّدى والمنائح

بينما تقول الآيات القرآنية: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ” (سورة يس)، “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (سورة النحل).. وغيرها من الآيات التي تؤكد نفس المعنى.

دافع آخرون عن المعري مؤكدين أنه لم يقل هذا القول سوى رحمة بالحيوان والدليل على ذلك حياته الزاهدة وشعره، فكان من بين هذه الأبيات الشعرية بيت قال فيه إن إطلاق صراح برغوث خير من التصدق بدرهم في إشارة للرحمة: “تسريحُ كفّيَ بُرْغوثاً ظفِرتُ به..  أبرُّ من درهمٍ تعطيهِ مُحتاجا”.

ورد المعري نفسه على مهاجميه قائلًا: “إن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن صيد الليل “أقروا الطير على وكناتها”، واستدل أيضًا بآية قرآنية ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ” (سورة المائدة).

وأوضح صاحب رسالة الغفران، أنه هنا حين كان التقرب من الله حُرم الصيد الحل.

وأكد دكتور محمد عبدالحميد بك وكيل القومسيون الطبي العام، خلال مقال له بعنوان “المعري النباتي.. كان رحيمًا متقشفًا لا زنديقًا ملحدًا”، أن ليس بالضرورة أن يكون امتناع المعري عن اللحوم مقترنًا بتحريمه لأكلها، بل أنا أرى أنه كان مرهف الحس لا أكثر، وفيما يخص الأشعار التي حرمتها ونسبت له فمن الممكن أن تكون قد دست عليه، مثلما دُس إليه أشعار كثيرة، بخاصة أن كثيرين كانوا يحقدون عليه وعلى موهبته.

بالطبع لم يكن كونه “نباتيًا” هو السبب الوحيد لاتهام المعري بالكفر والزندقة -وقتها- لكنه كان أغربهم بالنسبة لي على الأقل.

مصادر: عدد خاص لدار الهلال عن المعري في يناير 1938، كتاب أبو العلاء المعري لأحمد تيمور باشا.

الرابط المختصر: