لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

“أم أسعد”.. امرأة حديدية بقلب مكلوم



 

قصة صحفية: مجدولين أبوموسى- طالبة إعلام في جامعة فلسطين التقنية "خضوري"

 

  ثمانون عاماً كتبت بالمعاناة، لتترك أثاراً كبيرة لا يمحوها الزمان، حاجّة حملت على عاتقها همّ تربية ستة أبناء  بعد أن ظلمتها عادات وتقاليد بالية لا تعرف معنى العيش والهناء، وليشارك القدر المجحف احتلال جُرد من كل معاني الإنسانية، يضرب هنا وهناك بسوط من نار، ليحرق الدماء قبل الأجساد، ويستل سكين الموت ويغرسها في  قلوب الأحياء قبل الأموات.

خنجر العادات والتقاليد…

 حزنها على وفاة زوجها الأول، وقلبها المكلوم على ابنتين صغيرتين خطف الموت والدهما، وجعلهما بلا سند في دنيا قانونها شريعة الغاب، لم يشفع لمهدية دقة من بلدة عتيل أمام عادات  كتبت بدماء ضحايا المجتمع، الذي يقدس ما ورثه عن الآباء والآسلاف، قبل أن يعير لحياة الإنسان أهمية.

  فبعد انقضاء عدتها، سارع الجميع من حولها لتزوجيها بشقيق زوجها، دون أن يكون لرأيها ورأيه أيّة أهمية، فما يأمر به كبار العائلة يجب أن يقال له سمعاً وطاعة، وإن ساولتك نفسك بالاعتراض، سترجم بلعنة المجتمع وتصبح خارجاً عن المألوف، فعيون الناس وسيوف ألسنتهم لا ترحم إمرأة أرملة في ريعان شبابها، ولا تترك وردتان صغيرتان ترويهما امرأة  وحيدة.

 خضعت لقيود العادات، وتزوجت بمن اختاره رجال العمامة زوجا لها من أجل تربية فلذات أكبادها، فأنجبت أربعة شبان، ليكونوا لها مرهماً يبرأ ظلم الأيام وجروحا قد صنعها الزمان، فكانوا السند والمدد، وكانت هي الأم والأب تعمل وتسعى لتربية أبنائها وتحمل في رقبتها مسؤولية حياتهم، في ظل غياب والدهم الذي كان قد تركهم وسافر خارج البلاد عام 1977م، و أكمل السيناريو بزواجه بامرأة ثانية.

وعندما اشتدّ موال الظلم وأصبحت نارجهنم جنة بالنسبة للحال، واطأنت على نجمتيّ حياتها بعد أن أصبحتا في بيت الزواج، صرخت في وجه الظلم وطالبت بفك القيد، وسماع كلمة الطلاق لتحفظ كرامة باقية، وتحيا بأبسط حقوق البشر.

 وبعد إلحاح استمر شهراً كاملا، نالت المراد مخيرة أبناءها بالبقاء في المكان الذي يريدونه، لتذهب إلى بيت شقيقها، فأبى الأبناء ترك بيت قد كدت والدتهم من أجل بنائه وذرفت حبات العرق من أجل رؤية قوامه، ليذوقوا مرارة علقم الصبر، فأخذت تعمل بالزراعة، وتساندها أيدي أبنائها من أجل استئجار بيت يجمعهما سقفه بطمأنينة وسلام.  

دوامة الاحتلال..

 كبر الأولاد وكما قيل بالمأثور: "كلما كبر الولد ازادت همومه"، فامرأة أرضعت أبناءها حليب الإباء وعلمتهم رفض الظلم والانسياق، وحاربت من حولها دون كلل أواستسلام، جعلت بكرها من الأولاد وأول فرحتها "أسعد" يسير على درب المناضليين والشرفاء ويحمل بندقية رصاصها يصيب الهدف دون خوف أوتردد بجانب إخوانه في حركة الجهاد الإسلامي، وعرف بأخلاقه العالية والتزامه الديني وتحصيله العلمي المتميز فكسب قلوب من حوله وحب من يمر بجانبه.

  وفي ذكرى يوم الأرض عام 1988م أصابت رصاصات خائنة جسد أسعد لتمزق قلب والدته قبل جسده، وكادت أن تذيقه الموت لتبدأ رحلة معاناة مع احتلال سطرت بدموع الحزن والقهر الذي يتوارى وراء قوة وجبروت تلك المرأة الحديدية، أمس ذاك اليوم المشؤوم هاجمت قوات الاحتلال منزل البطل المجروح وطالبت به، لكن لم ينجحوا بإمساكه، ليبقى مطاردا ً حتى وقع في شباك ظلمهم لأول مرة في ليلة موحشة بكت غيومها مؤزارة لدموع أمه عام 1990م، ويزج في سجن "الفارعة" فتكون الكفالة المادية سبب خروجه.

  بعد أن أوحى لهم أنه سيهدأ ويجلس دون أن يحرك ساكناً كبقيّة من كان معهم، لكن دماء الحر تغلي وتفور ضد الاغتصاب المشؤوم ليصبح طائراً يسعى الاحتلال لاصطياده واعتقاله، ولوي ذراعه باعتقال شقيقه زاهر الذي كان قد انضم لسرب النسور المناضلين في حركة "فتح" عام 1993م. 

 لتصبح مهدية في دوامة اعتقال تناوب فيها ضلعين من أضلاعها فبعد خروج زاهر عام 1995م عاود الاحتلال اعتقال أسعد عام 1996م ليخرج عام 1997م، ويعاودوا مرة أخرى اعتقاله إداريا عام 1999م. 

الاحتلال يضرم النار بنفسه ..

   وبورقة أخطأت الاسم خرج "أسعد" من قبضة السجان, فصدمة الاحتلال في تلك الليلة والصفعة التي أذاقوها لأنفسهم، جعلتهم يجرون أذيال انكسارهم، ويقتحمون منزل البطل مدعيين أنهم يريدون تقديم التهنئة له فلم يجدوه، ولإطفاء نار غضبهم اعتقلوا محمد لينفطر قلب مهدية على ضلع ثالث من ضلوعها.  

  بين سجن وآخر وسعيها للحصول على تصاريح من أجل الزيارة أمضت مهدية سنين حياتها، ولم تقف المعاناة هنا فقط، فمناورات الاحتلال لم تترك لها نافذة تطفئ نار شوقها لابنها المعتقل محمد، فبعد أن ازداد غيظ الاحتلال على أسعد وأصبح المطلوب الأول على قائمتهم السوداء رافعيين شعار"نريده ميتاَ أو حيًا مهما كلف الثمن".

 دخلوا  بأقدامهم القذرة وداسوا أرض البيت الذي يأوي مهدية وأبناءها وأزعجوا منامهم وهم يصرخون "نريد أسعد" فوقفت في وجههم وصرخت بهم قائلة: "أسعد لدى السلطة، إذا أردتموه اذهبوا وأحضروه بأنفسكم" وبدأت إلقاء عبارات تتوعدهم وتتهدهم في حال عاودوا الكرة، ودخلوا بهذه الطريقة الوحشية، ليعاقبها قائد المخربين بوقف إصدار تصريح زيارة لها.

جمرة الفقدان..

  وسط اعتقال ومطادرة، كان قلب تلك الحاجة ينزف ويعتصر ألماً ويطوق شوقا للاجتماع مرة مع جميع أبنائها منذ عام 1998، لتلقى تعويذة الفراق مرة أخرى علىزاهر ويعتقل في الثاني والعشرين من شهر أيار لعام 2001م.

  فيكون العام الأول بعد الألفين الأكثر سواداً وغمامة، وفي ليلة الحادي عشر من أيلول التي أبت أن تمر دون أن تطعن قلب مهدية، وتضيف لرحلة عذابها سطراً يقطر بدماء أسعد الذي روى أرض عرابة وصعد لسماء هي ملجأ الشهداء والذين عاهدوا الله صدقا.

 وكعادتها استيقظت تصلي الفجر داعية ربها أن يعمي العيون عن أبنائها، ويردهم إلى عشها بسلام، حاولت معاودة النوم لكن قلب الأم دليها، وجفون عينها رفضت أن تغلق ككل يوم، ليصلها     خبر استشهاد ابنها الذي لم تره منذ سبعة شهور، وتصرخ صرخة اهتزت لها السماء السابعة، وخرت دموع الرجال من نغمة الحزن التي عزفت على أوتار فؤادها، لتودع ابنها البطل وتواريه الثرى واثنين من أبنائها مازلوا في سجون الغدر،  يودعون شقيقهم عن بعد .

 جمرة الفقدان التى اكتوت بها مهدية على أسعد ليست كباقي جمرات حياتها، فابنها الشهيد حرق روحها وطرد الفرح من حياتها، ومسح معنى البسمة عن شفاهها، وأما أبناؤها سيعودون ويجتمعون تحت جناحها لأن باب السجن لن يغلق على أحد، ولكن من رحل لجنان الفردوس كيف يعود؟ وكيف للأيام أن تغفر تخاذلها وتمسح الحزن الذي نسجته بخيوط الحسرة و المرارة؟  

"هموم لو عرضت على الجبال لأبت أن تحملها"

 من ظنّ أن المعاناة انتهت هنا فهو مخطئ، فمهدية كابدت مزيداً من العناء وسط حياتها التي توشحت بالسواد بعد ذاك اليوم الملعون، وهي تتنقل من مكان لمكان لاستصدار التصاريح من أجل زيارة فلذتي كبدها، فالاحتلال رفضها أمنياً، ولقبها أحد الضباط ب "أم الأرهابيين"، لترتاح قليلا بعد خروج محمد ، وتقدم طعناً من أجل تخفيف حكم زاهر إلى 15 عاماً بدلا من 19 عاما.  

 اجتمع الأسود الثلاثة في عرين والدتهم "راني، زاهر، محمد" بجانب شقيقتيهم عام 2016م، لكن العرين يشتاق إلى رابع قد زلل جيش الاحتلال وأرعبهم في مماته، وانفطرت عليه قلوب الناس بالدماء، ولعل السنين تدواي جراح أولئك الناس.

 لكن من يداوي جراح قلب أم مكلومة، تحملت هموماً لو تحملتها الجبال لتناثرت غباراً في السماء من شدة هولها؟ ومن يمسح دموع تلك الحديدية التي كلما سمعت اسم أسعد، اغرقت الدموع عينيها وعادت إلى الوراء سبعة عشر عامًا تعيش الألم من جديد وتدعو الله اللقاء في فردوس النعيم،  محتسبة أجر صبرها عند الله العظيم، محتضنة صورته في قلبها الذي تلفه الشرايين.

الرابط المختصر: