لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

صور | تحقيق … فلسطينيون يأكلون خضاراً تتغذى على نفايات إسرائيلية مطحونة



ماذا تتوقع كمشترٍ للفلفل والبندورة والفجل والكوسا والباذنجان وغيرها من الخضروات المزروعة في الأغوار الفلسطينية أو "سلة غذاء" الوطن المعروفة بثمارها الناضجة وألوانها الزاهية وطعمها الأصيل؟

وماذا ستقول لو تبيّن لك أنّ هذه الخضار سُمّدت بنفايات منزلية إسرائيلية مطحونة، تحمل سبعة عناصر معدنية ثقيلة منها الرصاص والزرنيخ في مخالفة لقانون الزراعة الفلسطيني: المادة رقم 24 "لا يجوز تسميد المزروعات بفضلات الإنسان أو بأي سماد أو نفايات سائلة أو صلبة مختلطة بها أو مستمدة، إلا بعد معالجتها حسب المواصفات والمقاييس المعتمدة".

يسببُ وجود هذه العناصر الثقيلة عبر تناولها، بشكل مستمر وتراكمي، خطراً على الصحة بعيد المدى، فوفق مدير مركز أبحاث التنوع الحيوي والبيئة "بيرك" د. محمد سليم اشتية "تتصف العناصر الثقيلة ومنها الرصاص والكادميوم والزئبق، بخاصية التراكم الحيوي في معظم الأنسجة الحية في الجسم، وبقدرتها على تثبيط عمل الإنزيمات، الأمر الذي ينتج عنه آثارٌ ضارة للإنسان، منها الإصابة بالأنيميا، تلف أنسجة الدماغ، حدوث خلل في وظائف الكلى، شلل في الأطراف، إحداث تشوهات خلقية في الأجنة، الإصابة بسرطان الرئة، زيادة احتمال الإصابة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم".

إذن هل يعرف المستهلك الفلسطيني بظروف إنتاج هذه الخضار في الأغوار التي تسمدت من أكوام رمادية متوهجة بفعل شوائب زجاجية وبلاستيكية، ومخلفات مطحونة لكل ما يستهلكه الإسرائيلي في منزله، من حفاضات أطفال وورق مرحاض متسخ إلى عبوات تنظيف مليئة بمتبقيات الكيماويات.

مسار التحقيق

في هذا التحقيق الاستقصائي الذي استغرق ستة أشهر، تتبع معدة التحقيق مسار انتقال هذه الأسمدة الممنوعة من مكب "طوفلان" في منطقة (ج) الخاضعة إداريا وعسكرياً لإسرائيل إلى الأراضي الزراعية في الأغوار الوسطى والجنوبية. وتفحص عينات لخضار مختلفة من مناطق: زبيدات، مرج نعجة، مرج الغزال وفصايل، وذلك في مختبرات علمية بمرافقة الخبير البيئي جورج كرزم، وتواجه متعهد المكب الفلسطيني الذي اُستدعي للتحقيق من قبل أمن محافظة أريحا والأغوار عدة مرات؛ لتحذيره من اتخاذ تدابير قانونية في حال استمر ببيع السماد للمزارعين الفلسطينيين.

يكشف هذا التحقيق، أن هذه العملية تتم بعلم مزارعين محليين يفضلون شراء سماد قادم من "نفايات مطحونة" إسرائيلية بسبب رخص ثمنهِ مقارنةً بالسماد العضوي (الزبل)، في ظل عجِز وزارة الزراعة وسلطة جودة البيئة، لسنوات عدة، عن منع المزارعين في الأغوار الوسطى والجنوبية من استخدام هذا السماد رغم إخطار العديد منهم عام 2017  بضرورة التوقف عن استخدامه وإلّا سيتعرضون للملاحقة القانونية.

وفق المستشار القانوني في سلطة جودة البيئة "مراد المدني" فقد تم إحالة خمسة مزارعين للقضاء عام 2017 في الأغوار الشمالية التابعة لمحافظتي نابلس وطوباس بتهمة جلب ونقل واستقبال هذه النفايات. 

قصة السماد

سلامة زبيدات مزارع خضار يملك 35 دونماً في منطقة مرج نعجة في الأغوار الجنوبية.

استخدم حتى شتاء 2018 نفايات مطحونة بدت أكوامها واضحة في أرضه وعلى أسفل شتلات حقله. يقول في لقاء مع مجلة آفاق البيئة والتنمية أن الشك ساوره عند بدء استخدام هذا السماد قبل أربع سنوات بسبب رخص أسعاره، حيث قال: "لو في خير ما رماه الطير"..

وأضاف: "استخدمناه لأن البديل مكلف جداً". فتكلفة الـ60 طن أي شاحنة مع مقطورتها من الزبل العضوي يصل إلى  800 دولار مقابل 10 دولار لـ50 طناً من سماد النفايات المعروف محليا بـ" الكومبوست".

وفضّل زبيدات سماد النفايات لفعاليته ورخص ثمنه في سوق زراعي يعاني من منافسة شديدة من المنتجات القادمة من إسرائيل والمدعومة من الحكومة.

يؤكد انه علمَ من مرشدي مديرية الزراعة عن أضرار هذا السماد منذ عام 2015 لثني المزارعين عن استخدامه.

سلة الغذاء

تنتج هذه الخضار في تربة تعدّ الأخصب تاريخياً في الضفة الغربية، والأكثر إنتاجا للخضار بما نسبته 20.7% في محافظة أريحا والأغوار من إجمالي زراعة كلية للخضراوات في الضفة والقطاع  تقدر بـ 14% بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2010.

رحلة التحقيق

زارت معدة التحقيق المناطق الأربع في الأغوار الجنوبية والوسطى التي تتبع محافظة أريحا والأغوار البالغة مساحتها 593 كم مربع من إجمالي مساحة مناطق الأغوار الكلية بالمناطق الثلاث (أ، ب، ج) 2400 كم مربع. الزيارات تمت في أوقات متباعدة ما بين أوكتوبر 2017 وشباط 2018

أخذت معدة التحقيق ثلاث عينات بالترتيب: نفايات مطحونة "كومبوست"، تراب أصلي استخدم سماد النفايات، وثمار باذنجان تسمّدت بهذه النفايات، وذلك من مزرعة لإنتاج الخضار المتنوعة في مرج نعجة.

 فُحصت العينات في "مركز مختبرات الفحوص" جامعة بيرزيت" – مركز معتمد فلسطينيا وحاصل على الايزو.  وأظهرت الفحوصات الثلاثة وجود تلوث بعناصر ثقيلة (كروم، كادميوم، نيكل، رصاص، نحاس، زرنيخ) فيما لم تظهر وجود تلوث بكتيري، نظراً لتعرض النفايات لفترة طويلة للشمس بحسب المختبر(أنظر نتائج الفحص الأولي للتربة والسماد).

بعد هذه النتيجة الأولية، تم إجراء فحصين شاملين خلال ثلاثة شهور لأصناف متنوعة من الخضار (بندورة، خيار، كوسا، فول أخضر، فجل، فلفل حلو، فلفل حار، باذنجان) وفق منهجية علمية Composite samples أو العينة المركبة. فبحسب هذه المنهجية؛ تؤخذ عينة صغيرة من مجموع عينات (20 ثمرة) من كل صنف للحصول على نتيجة دقيقة شمولية.

عزز الفحص الثاني نتيجة الفحص الأولي بأن هناك استمراراً لوجود متبقيات عناصر ثقيلة، والتي حتى لو ظهرت بنسب ضئيلة في كل عينة وجاءت وفق المواصفة الفلسطينية (ملوثات الأغذية – مادة 7) والمستندة على معايير الدستور الغذائي العالمي؛ إلا أنها تبقى خطرة على المدى البعيد وفق الوكالة الدولية لأبحاث السرطان IARC.

أخطار تراكمية بعيدة المدى

يوضح الخبير كرزم بالتفصيل ، تأثير تلك العناصر الثقيلة في حال تناولها بشكل مستمر وتراكمي حسب IARC:

مناطق توزيع الخضار

تتبعنا مسار نقل هذه الخضار من خلال لقاء سائقي شحن ومزارعين في مناطق مرج نعجة وزبيدات. تتجه الخضار إلى نقطة أولية "حسبة" في منطقة "بيتا" جنوبي نابلس ومنها لبلدة قباطية جنوب غرب مدينة جنين.

كما تصل الخضار ولكن بكميات أقل إلى باقي الضفة الغربية كرام الله وبيت لحم. ومن خلال تجار فلسطينيين تصل إلى مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 ، بحسب سائقي شاحنات ومزارعين من الأغوار.

جسر العبور

بدأ استخدام نفايات المكب كسماد، وفق مزارعين ومصادر رسمية في عام 2009. وقتها بدأ المتعهد الفلسطيني ث.ح من منطقة الأغوار الوسطى يتابع عملية نقل النفايات المطحونة من مكب "طوفلان" التابع لشركة قطاع خاص إسرائيلية إلى آلاف الدونمات في الأغوار الجنوبية والوسطى والشمالية. أنضم ث.ح للشركة كمشرف ومتعهد في العام 2001.

كانت عملية التوزيع في السنوات الأولى تتم بشكل علني. ولكن بعد تنبّه وزارتي البيئة والزراعة عام 2015 من خلال مرشديهم الزراعيين وتحذيرهم للمزارعين من مخاطر استخدامه؛ وعلى إثر ذلك؛ بدأ المتعهد يوزّع بالخفاء.

ينتج المكب يومياً 200 طن من هذه النفايات، يشرف المتعهد المذكور على عملية تحميل الشاحنات بناء على طلب المزارعين.

قصة المكب

المكب مقام على أرض مصنفة (ج) وتابعة لمنطقة الجفتلك شمال أريحا وشرق مستوطنة مسواه. وهو مُقام على ثلاث قطع (وفق مخططات الإدارة المدنية) تقدر مساحتها بحوالي 320 دونماً، تحيط به ثلاث محميات طبيعية هي وادي جزلة وصرطبة ووادي الأحمر.

أنشئ  المكب عام 1990 كمكب غير رسمي لاستيعاب نفايات مستوطنات شمال الأغوار، بحسب المستشار المدني في العام 2002  تحول (بموجب قرار صادر عن وزارة البيئة الإسرائيلية) لمكب رسمي يتبع شركة "صناعات التدوير المتداخلة" TMM الإسرائيلية والتي تعد الأولى في مجال معالجة النفايات الصلبة ومقرها مدينة هرتسيليا على الساحل الفلسطيني المحتل.

يستقبل المكب منذ عام 2004 نفايات منزلية من مدن ومستوطنات إسرائيلية، ويتخلص منها بطريقتين: عملية الطحن تتم عبر غربلة النفايات الخفيفة عن الصلبة، الأخيرة التي يتم طمرها، أما النفايات الخفيفة والتي تشكل 20% من مجموع النفايات فيتم طحنها وتحويلها إلى سماد، وهي بنسبة كبيرة تحتوي على مخلفات الطعام.

تغطي هذه الشركة المسؤولة عن المكب، ثُلث كمية النفايات في إسرائيل سنوياً.    

سماد غريب الشكل، اللون، والرائحة

يمكن تمييز هذا "السماد" برائحته القريبة لرائحة الحاويات المتخمرة. ولونه الرمادي الغامق. فيه قطع صغيرة من البلاستيك والزجاج والمطاط وغيرها من مخلفات المنازل المطحونة، كما شوهد أيضاً إبر طبية.

يقول أمجد جبر من المديرية التابعة لسلطة جودة البيئة في محافظة أريحا، إن حجم ولون الحبيبات كبير نسبيًا، وصلابتها لا تتطابق مع مواصفة السماد العضوي، المعتمد بـ المواصفة الفلسطينية الخاصة بالسماد(26-25) المعتمدة في تاريخ5/5/ 2013.

المكب والقانون الدولي

وفق المستشار المدني فإن هذا المكب يهددُ بمخاطر صحية وبيئية، ويشكل انتهاكا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 71/247 عام 2016، وأحكام اتفاقية بازل بشأن التحكم بنقل النفايات الخطرة والتخلص منها في الأراضي المحتلة.

منذ بداية عام 2018 بدأت سلطة جودة البيئة بالتنسيق مع الخارجية الفلسطينية متابعة موضوع إدانة المكب دولياً، استناداً إلى القوانين المذكورة أعلاه، وذلك عبر تقديم شكوى إلى المقرر الخاص بالأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان والمواد السامة ضد حكومة إسرائيل بصفتها الدولة القائمة بالاحتلال، وضابط الإدارة المدنية المدعو (يوآف مردخاي). ومنسق جودة البيئة في الإدارة المدنية المدعو بيني الباز، وشركة TMM.

الزراعة والاقتصاد والبيئة

يؤكد  مسؤول مديرية الزراعة في محافظة أريحا والأغوار أحمد الفارس

في العام 2017 بدأت المديرية توزيع الإخطارات القانونية على ما يقترب من الـ 500 مزارع، وفي حال استمرارهم باستخدام السماد ستقدم فيهم شكوى للنيابة العامة.

وأكد أن متابعة ملف النفايات ومحاسبة المتعهد من اختصاص سلطة جودة البيئة ولجنة السلامة العامة في محافظة أريحا والأغوار، بحسب قانون رقم 7 لعام 1999 المادة 12(نقل واستخدام النفايات الخطرة)، وأيضاً وزارة الاقتصاد القرار بقانون رقم 4 لعام 2010 بشأن حظر ومكافحة منتجات المستوطنات.

وفي سؤال فارس حول عدم اتخاذ إجراءات رادعة كمنع تسويق الخضار في الأسواق الفلسطينية، قال أن الأمر ليس بهذه السهولة، والبديل للمزارعين سيكون الاتجاه للسوق الإسرائيلي.

من جهته ينفي مدير الضابطة  الجمركية التابعة لوزارة الاقتصاد في أريحا فادي أبو القرن ضبط شاحنات محملة بنفايات من مكب طوفلان.

 وقال "الحل الوحيد يكمنُ في استجواب المتعهد ومراقبته، وهذا ما نفعله حالياً".

مواجهة المتعهد

لا ينفِ ث.ح تواصل الجهات الأمنية الفلسطينية معه وتعهده بالتوقف عن نقل النفايات.  لكنه أكد أن المزارع إن أراد الحصول عليها سيستطيع ببساطة من خلال التواصل مباشرة مع صاحب المكب الإسرائيلي.

 يعمل ث.ح في المكب منذ عام 2001 كمتعهد ومشرف على عملية طحن النفايات وغربلتها وتجفيفها. حيث بدأ بنقل سماد "النفايات المطحونة" منذ سبع سنوات إلى مزارعي الأغوار بعد أن ذاع صيتها كبديل عن الزبل البلدي، وتحديدا ً في موسمي الزراعة أول الصيف والشتاء.

يقول: " سمع مزارعو الأغوار عن السماد بحكم عملهم في المستوطنات الإسرائيلية. حيث لاحظوا انه يستخدم لتسميد أشجار البلح هناك، فبدأوا يطلبونه مني، وصرت أرسله لهم منذ عام 2011 بناء على طلب المزارع وليس رغبة مني".

يؤكد المتعهد أنه ليس متخصصاً في نقل النفايات لكنه "عبد مأمور" لصاحب المكب الإسرائيلي "بقولي قيم من هون …بقيم، بقول حط هناك… بحط". مؤكداً أن الشاحنات تخرج من المكب للمزارع بإشراف من المسؤول الإسرائيلي.

ويدفع المزارع الأجرة لصاحب المكب الإسرائيلي مباشرة ثمن السماد الذي يشتريه

جهود ولكن!

رغم جهود وزارتي الزراعة والبيئة ولجنة السلامة العامة في محافظة أريحا والأغوار، فما زال ثلث المزارعين "وفق المدني" يستخدمون سماد النفايات رغم كل التحذيرات وإحالة بعض القضايا للنيابة العامة.

كما أن السوق الفلسطيني مفتوح على مصراعيه أمام تلك الخضار المسمدة بالنفايات، في ظل ضعف الرقابة الكاملة على توزيع النفايات ووصولها لأراضي المزارعين؛ الأمر الذي سيبقي المشكلة قائمة.

وسيظّل في مكونات طبق السلطة الشهي على موائد الفلسطينيين كيس قمامة لمنزل إسرائيلي ألقي بجوار أخصب أرض زراعية "الأغوار".

الرابط المختصر: