مئوية بيرزيت .. فوق التلة ثمة متسع رحب لتجليات الجدارة علماً وعملاً !
د. طلال شهوان- رئيس جامعة بيرزيت
على مشارف نهاية العام 2024، وبقلوب يعتصرها الألم تجاه الواقع المُريع الذي يرزح تحته شعبنا في غزة نتيجة عدوان الإبادة المستمر، وفي ظل أصناف متعددة من التنكيل اليومي الذي تعانيه باقي أرجاء الوطن، نعايش معاً مضي مئة عام على ولادة بيرزيت-المدرسة، بيرزيت-الفكرة. هذه المناسبة ترسم على شعاع الزمن حكاية ملهمة، وتدفع باتجاه تغذية الأمل بالرغم من المصاعب الجمة الماثلة في الواقع. فقبل قرن من الزمان، وفي ظل ظروف غير مواتية، قامت المربية نبيهة ناصر بتأسيس مدرسة بيرزيت للبنات، وعملت فيها بتفاني، حيث كانت تعلم التاريخ واللغة العربية، وتقوم بأشغال الحديقة، والتسوق لصالح المدرسة، وترافق الطلبة في العزف والغناء، إلى جانب كونها مديرة للمدرسة، وناشطة مجتمعية.
نمت المدرسة وتطورت مع مرور السنوات، وفي العام 1932، تقرر إنشاء مدرسة للبنين، وتوحدت المدرستان في مدرسة واحدة أصبح إسمها مدرسة بيرزيت العليا، والتي تحول لاحقاً إسمها إلى كلية بحلول العام 1942. في اعقاب احتلال عام 1948 تم التوسع التعليمي باتجاه اطلاق كلية جامعية متوسطة، تولى رئاستها السيد موسى ناصر. جاء ذلك ضمن رؤية تربوية وطنية، تستند إلى أهمية التعليم في تشكيل الوعي المتجذر، والمحافظة على الهوية والدفاع عن الحقوق الوطنية. وكما يرد في المصادر ذات الصلة، فقد شهدت الكلية حياة ثقافية غنية بالنشاطات اللاصفية، وتوافد أعضاء الكلية من كل أنحاء فلسطين، ومن الأردن ولبنان، مدفوعين بتوجهات وطنية وقومية، وكان لهم أثر بالغ في بلورة قيم تحث على تقديم الصالح العام على المصالح الفردية، في إطار السعي نحو خدمة المجتمع والبلاد.
مع مرور الوقت وتراكم الخبرات، وبفضل عطاء الرواد الأوائل وتفانيهم ودعم الأصدقاء والمحبين، شهد عام 1972 ولادة جامعة بيرزيت التي بدأت بتقديم درجة البكالوريوس في الآداب والعلوم. ونظراً للاحتياجات المتزايدة للتوسع المكاني وللبنى التحتية الملائمة، قررت الجامعة إنشاء حرم جامعي جديد، ووضعت بذلك اللبنات الأولى في الموقع الذي تمتد عليه الجامعة اليوم. تخرج الفوج الأول من جامعة بيرزيت في العام 1976، وفي تلك المناسبة خاطب رئيسها المبعد في حينه الدكتور حنا ناصر الخريجين قائلاً: “عندما يُكتب تاريخ العلم والثقافة في فلسطين، سيسطع هذا اليوم كشهاب منير، ويظل رمزًا لتصميمنا ونضالنا من أجل بناء صرح هذا المعهد التعليمي العالي. إن هذا اليوم يوم تاريخي لكم ولشعبنا الفلسطيني الأبيّ، فأنتم تمثلون الفوج الأول الذي سيتخرج من أول جامعة عربية في فلسطين”. في شهر نيسان من العام نفسه، انضمت جامعة بيرزيت إلى اتحاد الجامعات العربية، في الاجتماع الذي عقده الاتحاد في العراق، وحضره الدكتور حنا ناصر وعميد الجامعة آنذاك المرحوم الدكتور جابي برامكي.
توالى بعد ذلك تطور وتوسع الجامعة، وافتتاح تخصصات ومرافق جديدة، بفضل جهود أسرة الجامعة وعطاء المجتمع، والطليعة والمؤسسات الوطنية، والأصدقاء والمحبين والداعمين في الداخل والخارج. كانت جامعة بيرزيت طريقة الأوائل في اكتشاف القوة الكامنة في داخلهم، حيث العمل ينبع من القيم والقناعة، ومما يملكه الناس والمجتمع، والثقافة والطبيعة، كما وصفها الراحل رمزي ريحان.
وإلى جانب حكاية الجامعة التعليمية والمجتمعية، فهناك حكايتها مع تعسف الاحتلال ومضايقاته. فبعد سنوات قليلة من انطلاق الجامعة، تحديداً في عام 1980، أصدرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أمراً عسكرياً يقضي بوضع مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية تحت إمرة الحاكم العسكري. كان مفاد ذلك منح الاحتلال إمكانية التحكم في تسجيل الطلبة وتعيين الموظفين، فقادت بيرزيت حملة داخلية وخارجية ضد الأمر العسكري، أدت لاحقاً إلى تراجع سلطات الاحتلال عن تنفيذ القرار المذكور. لم ينجم عن ذلك بالتأكيد توقف استهداف الجامعة والتضييق عليها من جهة الاحتلال، فقد أغلقت الجامعة بأوامر عسكرية 15 مرة منذ العام 1973 وحتى أوائل التسعينات، بحيث وصل عدد أيام الاغلاق ما مجموعه 1571 يوماً. واستمر من وقت لآخر اقتحام حرم الجامعة، واعتقال الطلبة والعاملين. هذا إلى جانب الانتقاص البالغ من الحرية الأكاديمية، والحد من فرص الجامعة في التشبيك مع الجامعات الخارجية، والتضييق على الأساتذة الذين تستقدمهم الجامعة من الخارج ومنع دخولهم أو تحديد فترات تواجدهم بشكل متعسف، وخلق الظروف التي تحد من التنوع الجغرافي في الجسم الطلابي، والتحكم بدخول الأجهزة ومستلزمات التعليم والبحث التي تستوردها الجامعة، وغير ذلك.
بالرغم من الضيق والتضييق، تنتهي مائة عام لتبدأ مائة عام جديدة من عمر هذه المؤسسة الفلسطينية الرائدة، وها هي اليوم تزهو بما يقارب مائة وخمسين برنامجاً في مختلف الدرجات الأكاديمية، على امتداد طيف واسع من التخصصات والحقول العلمية، وبنجاحات وانجازات كثيرة على عديد الأصعدة. فالجامعة لديها حالياً تسع كليات وأحد عشر معهداً ومركزاً، تطرح مئة وواحد وثلاثين برنامجا أكاديميا، منها 83 برنامجاً يؤدي إلى درجة البكالوريوس، و41 برنامجاً يؤدي إلى درجة الماجستير، و4 برامج تؤدي إلى درجة الدكتوراة، وبرنامجان لدرجة الدبلوم في التربية، بالإضافة إلى برنامج الدراسات العربية والفلسطينية للطلبة الأجانب. كذلك، تقدم وحدات الجامعة 16 برنامجاً تنتهي بمنح شهادة الدبلوم المهني المتخصص.
أما الحرم الجامعي، فهو في تطور مستمر باتجاه إغناء البيئة التعليمية والحياتية وايجاد حرم أخضر وذكي، وهو يحتضن حالياً ستة وثلاثين مبنى رئيسياً، من بينها مباني الكليات والمعاهد والدوائر الادارية، ومكتبة رئيسية وثلاث مكتبات فرعيات، ومتحف، ومسرح، ومرصد فلكي، ومدرج رياضي، وصالة رياضية مغلقة وخمسة ملاعب رياضية، بالاضافة إلى ست كافتيريات رئيسية، ومساكن حديثة للطالبات، كان آخرها افتتاح سكن الرياض.
يقول أحد المفكرين، إن العمل الجيد هو المكان الذي تشعر فيه بأنه ينظر إليك على أنك أفضل نسخة من نفسك. هذا ينسجم مع حرص جامعة بيرزيت المتواصل على توفير الأجواء التي تتيح لأفراد أسرتها تقدبم أفضل ما لديهم، والافتخار بالعمل والانجاز، ضمن بوتقة رحبة لقصة جامعة، تزخر بالتكافل والإنتماء، ويجد فيها الفرد متسعاً لحكايته الخاصة. وها هو حرم الجامعة يزخر بالفعاليات وبالندوات وبالمسابقات، وها هم طلبة الجامعة وأساتذتها يحصدون الانجاز تلو الآخر، في مختلف المجالات، وعلى المستويات المحلية والاقليمية والعالمية. ومع انقضاء سنوات التعليم، تتوالى أفواج الخريجين، حيث يتخطى عددهم حتى الآن ثلاثة وخمسين ألفاً، نقش كثيرون منهم في مواقع متعددة بصمات الجدارة على شعاع الزمن، وأناروا للعلم وللعمل شموعاً متجددة في الوطن وفي المحيط الاقليمي والعالمي.
ومع إطلالة المئوية الثانية، وبالرغم من صعوبة الظروف ومحدودية الموارد إلا أن الجامعة مصممة على المضي في تميزها الأكاديمي، وانخراطها المجتمعي، ورسالتها الوطنية، والانفتاح على التنوع والابداع الحضاري الانساني. فالجامعات حول العالم تمر بتغيرات جذرية تفرضها القفزات المتتابعة في التكنولوجيا الرقمية وتداخل التخصصات والحقول المعرفية، وما ينجم عنها من تأثيرات في منظومة وطبيعة التعليم العالي، وفي الواقع العملي والحياتي. ضمن هذا المنظور، فإن الجامعة ستواصل مسيرتها في استحداث التخصصات الحديثة والملائمة لتأهيل الكوادر البشرية اللازمة، وذلك من خلال مراجعة البرامج والخطط التدريسية واستحداث برامج أكاديمية جديدة، وتكثيف التحولات باتجاه تكنولوجيا التعليم الرقمي والبيداغوجيا التربوية الحديثة. وستعمل الجامعة على تعزيز المحتوى التدريبي ضمن برامجها من أجل إكساب الطلبة مهارات وكفاءات فكرية وعملية، وتوفير فرص التعليم المتميز أيضاً للطلبة المحتاجين مادياً. هذا إلى جانب تعزيز البحث العلمي وانتاج المعرفة، والعمل على تعزيز العلاقة مع المجتمع والقطاع الانتاجي. كذلك ستمضي الجامعة في توسيع الشراكات المحلية والخارجية، وستستمر في خدمة المجتمع من خلال البرامج والمشاريع التنموية في المجالات المتعددة. إن التطوير الذي تعكف عليه حالياً وحدات الجامعة وأسرتها يتطلب تحقيق الاستقرار داخل الجامعة، وهو الذي أخذنا نعايشه في الفترات الأخيرة بحس عالٍ من الجميع تجاه المصلحة المشتركة واستدامة المؤسسة، كي تمضي الجامعة في مسيرتها العظيمة نحو المستقبل كنموذج للتميز وللعطاء متعدد الجوانب والآفاق.
خلال احتفال تسليمه شهادة الدكتوراة الفخرية في الآداب عام 1996، قال شاعرنا محمود درويش: “لست هنا لأشيد بدور مثقّفينا، وجامعاتنا، وبخاصة جامعة بيرزيت، في الدفاع عن ثقافتنا القومية وعن تحصينها ضد أخطار التشكيك بالذات. ولكني أود الإشارة إلى سعة المجال التاريخي الذي ينبغي على مشروعنا الثقافي أن يتحرك فيه، وهو مطالب بالامتداد على رقعة مجالات معرفية شاسعة، في مقدمتها حماية ذاكرتنا الجماعية، وحقنا في سرد روايتنا التاريخية، والدفاع عن وعينا التاريخي، وتطوير آليات التعبير عن انتمائنا القومي والإنساني، وتعميق ثقافة الديمقراطية والحرية والكرامة، ومفاهيم حقوق الإنسان.
الشكر لجامعة بيرزيت، إدارة ومدرّسين وطلبة، على دورها السابق واللاحق في تنشيط حياتنا الثقافية والوطنية”. هذه العبارات تمثل تذكيراً بليغاَ بغنى وحيوية وأهمية الأدوار التي تضطلع بها جامعة بيرزيت على الأصعدة المختلفة، والتي ستواصل الالتصاق بها مستقبلاً ضمن مهامها التاريخية والوطنية، من خلال احتضان النشاطات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية، والمساهمة في تمكين المرأة، في إطار رسالتها النبيلة الساعية نحو الحرية والعدالة في الوطن وفي العالم.
ختاماً، ستمتد فعاليات الاحتفاء بالمئوية حتى آب 2026، وستشتمل على نشاطات متنوعة تسعى لاستحضار إرث الجامعة ومسيرتها الملهمة وانجازاتها، وتسلط الضوء على خططها الأكاديمية ومشاريعها البحثية والتطويرية القادمة، وعلى دورها كمؤسسة وطنية سعت دائماً لأن تكون حيزاً تنويرياً، تعددياً، ووحدوياً. وضمن هذا الاطار، سيكون هناك متسع لأسرة الجامعة ولخريجيها ولأصدقائها ولمحبيها، أفراداً ومؤسسات، للمشاركة في الفعاليات المختلفة، كي نكون جميعاً شركاء في كتابة فصول قادمة في حكاية عظيمة.
كل عام وجامعتنا ووطننا بخير.
رابط للراغبين بالاطلاع على أهم المحطات في تاريخ الجامعة:
https://www.birzeit.edu/ar/about/history