لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

“هليوبوليس” : مزاوجة ناجحة لصيغة الفيلم الروائي بأسلوب الوثائقي



هذا الماضي الذي يُستذكر جماله أيضاً بأسلوبٍ ثانٍ عبر مقارنته مع الحاضر الذي يقدم كمجموعة من الأزمات المتراكمة والانتظار الممل، والتي تظهر سواء في حركة عسكري الحراسة الذي يقضي يومه من دون أن يقوم بفعل حقيقي ذي جدوى، أو في حالة انتظار الدكتور هاني للتأشيرة التي ستمنحه حق الهجرة إلى كندا ليلحق بأسرته التي سبقته إلى هناك، أو في وضع انتظار العروسين الطويل لزواجهما وبدء حياتهما الجديدة معاً، أو في حالة الانتظار والعطالة التي تشل البلد كلها في ذلك اليوم لتوقف المرور بسبب مرور موكب الرئيس، بما يرمز إليه ربط تعطيل الحياة بالموكب الرئاسي من معانٍ ودلالات.

ومن جديد يستذكر الماضي بطريقة ثالثة عبر تقديم المستقبل باعتباره حالة مجهولة وغامضة، تخيف جميع الشخصيات وتربكهم، وتجعل حركتهم بلا معنى، كما لو أنها مجرد مراوحة في المكان، وعبر هذه الأزمنة الثلاثة والشخصيات المختلفة والمكان الواحد يقدم أحمد عبدالله في معرض تأريخه للزمن الذي مرّ على مصر منذ ما قبل الثورة وحتى اليوم، نقداً قاسياً وعاصفاً، رغم الهدوء الظاهري للثورة باعتبارها السبب الرئيسي في تدمير ما كان يمثله زمن بناء حي مصر الجديدة من جمال وتعددية، محملاً إياها أسباب فساد الواقع الحالي، وغموض المستقبل المجهول.

ومن خلال بناء درامي محكم ودقيق تتحرك كاميرا أحمد عبدالله التي تمزج الوثائقي بالدرامي لتلاحق قصة ابراهيم الجامعي الشاب الخارج من قصة حب فاشلة، والذي يحضر ماجستيراً عن الأقليات المتبقية في مصر، والتغيير الذي حدث في الأماكن والمحال الواقعة في حي مصر الجديدة، باعتبارها العمود الفقري لسيناريو الفيلم وأحداثه، والتي تتوازى مع قصة الدكتور عادل الذي يستعد للهجرة إلى كندا، للحاق بأفراد اسرته، وهو يشعر بالحزن لمغادرته المكان الذي عاش فيه، وهي القصة التي تتقاطع مع قصة العروسين الجديدين اللذين يستعدان لبدء حياتهما، بانتظار الحصول على شقه، هي شقة الدكتور هاني نفسها التي سيسلمها قبل هجرته، وبالتوازي مع هذه القصص يمر الفيلم على قصة إنجي موظفة الاستقبال في فندق هليوبوليس بالاس التي تكذب على أهلها في طنطا، مدعيةً عبر الرسائل والمال الذي تبعثه لهم مع عامل الفندق أنها تعيش في باريس، وقصة عسكري الحراسة الذي لا يفعل شيئاً على الاطلاق سوى الوقوف طوال اليوم، حارساً بآلية المكان المكلف به، ومن خلال التفاصيل الصغيرة والشخصيات الثانوية التي تمر حول تلك الشخصيات الرئيسية وفي حياتها، يمضي الفيلم في دراما أفقية من دون أحداث فارقة أو متصاعدة، وبإحساس من الرتابة والملل -لعدم حدوث شيء- مقصودين لنقل حالة الشخصيات اليائسة والمستسلمة لأقدارها إلى المشاهد، وتصوير حالة الشلل التي يعيشها المجتمع المصري في الزمن الحالي، حيث الحاضر مجرد محطة في انتظار المجهول القادم، ولا شيء يحدث فيه، سوى سيطرة البلطجية على الشوارع ومشاجراتهم، وأوامر رجال الشرطة التي تمنع أو تسمح بقرارات شخصية، وإخفاء البشر لهوياتهم الدينية خوفاً من المضايقة، وكذب الأبناء على أهلهم، وتعاطي الحشيش، وتمرير الأيام دون جدوى، لكن أحمد عبدالله وعلى الرغم من الصورة القاتمة والقاسية التي يرسمها لواقع مجتمعه الراهن وسيطرة القنوط واليأس على أفراده، إلاّ أنه يترك باباً صغيراً موارباً في نهاية الفيلم، عبر صوت حبيبة الطالب الجامعي ابراهيم التي هجرته والمسجل على الآنسر مشين، وهو يعطي أملاً ما ربما بغد أفضل، بعد أن يتساءل عن أسباب ما
حصل.

أهم ما في فيلم أحمد عبدالله “هليوبوليس” الذي ينتمي إلى السينما المستقلة ذات الميزانيات البسيطة، هو أولاً البناء الدرامي الذي يربط شخصياته بعضها عبر خيط خفي يمكّن المشاهد من جمع قصص تلك الشخصيات، وبناء الهيكل والمعنى العام للفيلم، وثانياً حالة التزواج الناجحة بين صيغة الفيلم الروائي وأسلوب الفيلم الوثائقي التي توهم المشاهد في الكثير من اللحظات، كما لو أنه يشاهد الواقع نفسه لا قصصاً مؤلفة ومركبة من هذا الواقع، وثالثاً غياب البطولة الفردية لمصلحة تناغم جماعي في الأداء، يخلو من الاستعراض أو محاولة التفرد لدى هذا الممثل أو ذاك، وباستثناء شغل خالد أبوالنجا الذي يبدو متأثراً إلى حد كبير بنمطية أدائه في أعماله السابقة، يظهر باقي الممثلين أقرب إلى الشخصيات الحقيقية الحية في فيلم وثائقي، ورابعاً الايقاع البطيء المتعمد في محاولة لنقل حالة الشخصيات وواقعها إلى المشاهد، وهذه الأسباب الأربعة تخلق علاقة مشاهدة مع متفرج الصالة تختلف عن التقليدية، التي يكون فيها المتفرج خارج قصة الفيلم، يراه باعتباره غريباً عنها، سواء تفاعل مع أحداثها، وتعاطف مع شخصياتها، أم لم يفعل.

الرابط المختصر: