بعد مرور 61 عاماً على تهجيره من قريته.. أبو لبدة لا يزال متمسكاً بعودته وذاكرته لا تنسى صبّارين
ويصف أبو لبدة صبارين، ‘بجنة الله على الأرض’، ويقول: كانت صبارين والقرى المجاورة لها غنية بالمياه وتجري فيها عيون عديدة اذكر منها (عين البلد، وعين الحجة، ووادي الزيوانية، وعين أبو حلاوة، وعين الفوار، وعين البلاطة، وعين أبو شقير).
وأضاف: كانت قرية صبارين من القرى الزراعية التي يعتمد سكانها بشكل كامل على العمل في الزراعة وتربية المواشي، وكانت لها أراض وحقول ومراعي كبيرة تصل مساحتها إلى 35 ألف دونم، يزع جزء منها بالقمح والشعير والحمص والكرسنة، وتستخدم أخرى كمراع طبيعية للمواشي والأغنام.
ويتابع الحاج أبو لبدة بمرارة: صبًارين كانت من أكبر قرى الروحة، وكان عدد سكانها عند وقوع النكبة ما يزيد عن 2800 نسمة، وكان فيها مدرسة تشتمل على عدة صفوف وأنهيت فيها دراستي حتى الصف الثالث، ومقهى وعدة دكاكين.
ومن العادات المحببة التي ما زال يتذكرها أبو لبدة، الأعراس التي كانت تقام في القرية، وقال قبل يوم العرس كان يقوم أهالي القرية بجمع ‘العونة’، حيث يقوم الأهالي بجمع الأرز، والحطب، والحليب، ويقومون بتقديمها لذوي العريس كنوع من التضامن والمساعدة، وكان العرس لأهالي القرية جميعا.
ويتذكر ‘أبو عدنان’، ليال الحصاد، ويقول: كان المزارعون يحصدون محاصيل الكرسنّة والعدس ويجمعونها في بواكير، ويضعونها في البيادر، ليبدأ بعد جفاف الندى، وارتفاع الشمس، ‘الدراس’….
ولا يزال الحاج أبو لبدة يحفظ عن ظهر قلب حدود قريته، التي قال إنه يحدها من الجهة الغربية السنديانة وبريكة، ومن جهة الجنوب قنير وكفر قرع، ومن الشرق أم الشوف وخبيزة، ومن جهة الشمال أم الدفوف ‘الزينات’ ودالية الروحة، وأردف: هذه القرى محفورة في ذاكرتي، وعلمتها لأبنائي ليحفظوها من بعدي ويعلمونها لأبنائهم.
وحول العائلات التي كانت تسكن قرية صبارين قبل نكبة 1948، أشار إلى أنها كانت (أبو لبدة، والعباهرة، والحاج محمود، والحجوج، والحميدة،وأبو سويلم، وأبو السمن، والملاح، وعبد الهادي.
وأضاف: بعد النكبة تشتت هذه العائلات في عدة أماكن، فمنهم من استقر في جنين، وعرابة، ومخيم نور شمس، وطولكرم، ومخيم الفارعة، والرصيفة، وعمان، واربد، أما القليل منهم فقد اختار أن يعيش في قرى وادي عارة المجاورة (أم الفحم، عرعرة، الفريديس).
ويعود الحاج أبو لبدة بذاكرته ويستذكر أحداث النكبة عام 1948م، ويقول: ‘قبل ان يهاجم اليهود قريتنا، كنا نسمع كثيرا عن مجازر بشعة يرتكبونها عند دخولهم إلى القرى الفلسطينية، فقرر عدد من كبار القرية التحرك في محاولة لتنظيم مواقع أو قوة للدفاع عن القرية في حال تعرضت للهجوم من قبل اليهود’.
ويضيف: ‘توجه هؤلاء الكبار إلى قائد الثورة في تلك الفترة وكان يدعى ‘القاوقجي’ في بلدة جبع لطلب الرجال والذخيرة للدفاع عن القرية وحمايتها، في الوقت الذي سيقوم بها سكان القرية بتوفير الأكل والشراب لهؤلاء الرجال، إلا ان مهمتهم فشلت ولم يستطيعوا إحضار المساندة لحماية القرية’.
ويروي: في يوم الثاني عشر من أيار 1948، هاجم اليهود القرية من الجهة الغربية حيث تقع جبال الروحة العالية والوعرة، وكذلك من جهة قرية السنديانة، وكانوا على شكل مجموعات مسلحة تتقدمهم سيارات مدرعة تحمل رشاشا، وبدؤوا بإطلاق النار على كل شيء، فاستشهد طفل صغير كانت تحمله شقيقته على البيادر، إضافة إلى رجل عجوز أصيب واستشهد.
وتابع: بعد هذا الهجوم، أصاب سكان القرية الرعب والهلع وبدأت عملية نزوح جماعية، من الجهة الشرقية إلى المناطق المجاورة، خاصة عندها بدأت السيارة المدرعة بمطاردتهم، أما من لم يستطع منهم ذلك، فقد قام اليهود بجمعهم ووضعوهم في احد ‘المغر’ القريبة من مجرى المياه الذي يمر من القرية، وأطلقوا النار عليهم.
وأشار إلى أن كبار السن والنساء والأطفال ممن لم يستطيعوا النزوح إلى مناطق أخرى، جرى جمعهم وإرسالهم إلى قرية أم الشوف ومن هناك، اجبروا على الرحيل تحت تهديد اليهود إلى أم الفحم.
ويقول الحاج أبو لبدة، إنه عندما هجر من قرية صبارين كان عمره 29 عاما، وكان متزوجا وأبا لثلاث بنات، وانه نزح إلى منطقة عرعرة لمدة أربعة شهور، قبل ان ينتقل ويقيم مع زوجته وبناته في مدينة جنين.
ويضيف بأنه عاد إلى قريته صبارين في العام 1988، وقال ما دفعني للذهاب إلى هناك هو شوقي لمنزلي وارضي التي تركتها قسراً، وأضاف: كنت في شوق لاسترجاع ذكريات الماضي، وأشار والدموع تتسلل من عينيه إلى أن الاحتلال لم يبق على بناء في القرية، وأنه لم يتمكن من معرفة موقع بيته، الذي أصبح أثراً بعد حين.
هنا لم يتمالك ‘أبو عدنان’ نفسه، وهو يصف ما حل ببيته، ذي الثلاث قناطر، من دمار وقال: لم يعد البيت قائماً، والتراب والدمار يغطي المكان، خانتني الذاكرة ولم أعد أدري أين أنا. ولكن وأنا أجول في المكان، واستعيد ذكريات الماضي، وقع نظري على ‘تينة’ دار عمي، التي وإن شاخت، لكن طعم تينها لا زال تحت أسناني، عندها تذكرت موقع بيتنا. وهنا يشير أبو عدنان للحرج الذي أصابه بعدم قدرته على تذكر موقع البيت.
ويواصل: رغم معرفتي الجيدة لكل تفاصيل القرية بمنازلها وطرقاتها وأزقتها وينابيعها، إلا أنني عندما عدت إلى هناك عام 1988 لم أعرف المكان الذي كنت أقيم فيه، ويقول الاحتلال لم يبقي شيئاً على حاله، حتى الينابيع جفت وطمرها الاحتلال، والقرية التي طالما عرفت بخضرتها، أصبحت عبارة عن حظائر أبقار تحيط بها الأسلاك الشائكة من كل مكان. ومن هول ما رأى في زيارته الوحيدة لصبًارين بعد النكبة، قرر أن لا يعود إليها رغم شوقه لها فحسب أبا عدنان، فإن الزيارة تدمي القلوب.



