Site icon تلفزيون الفجر

المسمى الوظيفي في مرآة المجتمع الفلسطيني: عندما تصبح الألقاب عبئًا فوق الهموم

كتب د.أسامة ارميلات

في إحدى زياراتي لصديقي الطبيب في عيادته، وبعد الانتهاء من معاينته لحالتي، وجدتني أستمع إليه وهو يحكي بابتسامة مشوبة بالأسى عن أخيه الذي يعمل في “سمكرة” السيارات. قالها ببساطة وصدق: “أخي يكسب أضعاف ما أكسبه أنا، ومع ذلك، حين تكون هناك مناسبة اجتماعية، يُنتظر مني أن أقدم الواجب الأكبر فقط لأني طبيب!”.

جلستُ بعدها طويلاً أفكر… كم منّا يعيش تحت عبء المسميات؟ كم من الأطباء، وأساتذة الجامعات، والمحامين…الخ، يُعاملون في مجتمعاتنا لا كأشخاص لهم ظروفهم وتحدياتهم، بل كمناصب تمشي على الأرض، ومجرد لقب على بطاقة هوية أو باب مكتب؟

مجتمعنا – ككثير من المجتمعات المحافظة – يحمل منظومة تقليدية صارمة في نظرته إلى الناس. فـ”المسمى الوظيفي” لا يُرى كوظيفة فقط، بل كمكانة اجتماعية ثابتة، لا يجوز أن تخرج عنها. الطبيب أو الجامعي او المهندس، أو غيره، حتى لو كان مُرهقًا نفسيًا وماديًا، عليه أن يظهر بمظهر “يليق بالمقام”، وأن يدفع، ويعطي، ويساهم بما يتناسب مع مكانته، لا مع قدرته، وهنا أركّز على قدرته.

والمعضلة الحقيقية أنّ هذا الضغط لا يأتي في مجتمع طبيعي، بل في فلسطين، حيث الإنسان يعيش ظروفًا لا تطاق، ويقاوم على أكثر من جبهة. الاحتلال ينهش الأرض والروح، والاقتصاد في أسوأ مراحله، والراتب – إن وُجد – لا يكفي أسبوعًا. البطالة، الإغلاق، الخوف من الغد، وقائمة طويلة من أزمات لا تنتهي.

في مثل هذا الواقع، من الظلم أن نُحمّل الإنسان عبء ما نراه فيه، لا ما يعيشه في الحقيقة. فالطبيب في فلسطين مثلاً، ليس طبيبًا فقط، بل ابن لقضية، ورب عائلة، ومواطن يُعاني كما الجميع. وكذلك أستاذ الجامعة، والمهندس، وحتى المسؤول.

تحدثت النظريات الاجتماعية عن هذا كثيرًا، مثلما قال عالم الاجتماع “جوفمان” حين وصف كيف يجبر الناس إلى ارتداء “أقنعة اجتماعية” لإرضاء الآخرين. وكأننا نُمثّل أدوارًا ليست لنا، لمجرد أن المجتمع يريد ذلك. وأشار”بيير بورديو” أيضًا إلى كيف تتحوّل الألقاب والرموز الاجتماعية إلى أدوات قمع ناعم، تضع الإنسان في قفص اسمه “التوقعات”.

لكنني لا أكتب اليوم لأستعرض نظريات. أكتب لأنني – كغيري – تعبت من هذا التناقض. من أن يُطلب منا أن نكون ما لسنا عليه، وأن نحمل على ظهورنا أوزانًا لا نقدر عليها، فقط لأننا نحمل لقبًا ما.

الفلسطيني اليوم، أيا كان مسماه، يعيش ضيقًا ماديًا، وضغطًا نفسيًا، وهمًّا وطنيًا. يعيش بلا أمن وظيفي، بلا دخل ثابت، بل أحيانًا بلا كهرباء أو دواء. فلنكن أكثر رحمة مع بعضنا، لا تطلب من الإنسان أكثر مما يستطيع فقط لأن اسمه يوحي بشيء، فالمظهر لا يقول الحقيقة دائمًا.

دعونا نعيد النظر، لا فقط في طريقة تعاملنا مع الألقاب، بل في منظومتنا الاجتماعية ككل، فكرامة الإنسان ليست في مسماه، بل في صدقه مع نفسه، وفي تعبه اليومي الذي لا يراه إلا الله.

Exit mobile version