الأمل ليس ترفاً… بل معركة: كيف نحمل النور في زمن العتمة؟ بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
في زمنٍ صار فيه الخراب رفيق الأيام، والخذلان ظلّاً ثقيلاً يتبع خُطى الأمل أينما وُجد، لم يعُد بناء الرجاء مجرد ترفٍ فكري أو رفاهية عاطفية نتسلّى بها في زوايا الغرف المغلقة. لقد أصبح الأمل معركة حقيقية، معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح، معركة وجود قبل أن تكون معركة حدود.
في وطنٍ تتناثر فوق ترابه شظايا الأحلام، وتغدو الخيبة فيه حكاية تتوارثها الأجيال، يصبح التمسك بالأمل فعلاً من أفعال الشجعان. هو أشبه بإشعال شمعة في قلب عاصفة لا تهدأ، أو كزراعة سنبلة في أرض قاحلة بانتظار مطرٍ قد لا يأتي قريباً، لكن الزارع يؤمن أن السماء لا تخذل الذين يُحسنون الرجاء.
الأمل هنا ليس دواءً مسكِّناً، ولا كلماتٍ نُطرّز بها خيباتنا كي تبدو أقل قسوة. الأمل هو ذلك الفنار البعيد الذي يراه البحّارة وسط البحار الهائجة، يدعوهم للثبات والمُضيّ قُدماً رغم الأمواج العاتية. هو المسافة الفاصلة بين الانكسار الكامل والبقاء واقفاً على عكّاز الحكايات التي نحملها في صدورنا. وكل حكاية نرويها ليست للتسلية ولا للهرب من الواقع، بل هي سلاح أبيض في وجه العدم، وخندق أول للدفاع عن هويتنا في وجه محاولات الطمس والنسيان.
كل قصة نرويها نحن الفلسطينيين، هي صرخة في وجه الفقد، هي مقاومة ضد الغياب، وهي إعادة تسمية للأشياء التي أراد العابرون سرقتها. نحن أبناء الحكايات التي تُروى واقفة، كما يقف الزيتون في وجه الريح، لا يُنحني رأسه إلا ليُثمر أكثر.
وفي وسط هذه المتغيرات التي تعصف بالعالم من أقصاه إلى أقصاه، وفي زمنٍ صار فيه كل شيء يتغير كما تتغير السماء ألوانها عند المغيب، لم يبقَ لنا ملاذٌ إلا التمسك بالله. التمسك بالله هو اليقين الذي لا يتبدد، والثبات الذي لا يتزلزل.
الله هو أصل الثبات في قلوبنا، والنور الذي لا ينطفئ مهما اشتد الظلام.
هو القوة التي لا تُرى، ولكنها تُشعّ في الأرواح المطمئنة، فتمنحها القدرة على الصمود حين تنهار الأشياء من حولها.
أما الفكر السليم، فهو درعنا الأول في زمن الحروب النفسية، الحروب التي تُشنّ على العقول قبل الأجساد. أن تحافظ على وعيك وسط فوضى الانهيار هو أن تمتلك سلاحاً أقوى من كل ترسانات العالم. الهدوء هنا لا يعني الهروب، بل هو نار تحت الرماد تنتظر اللحظة المناسبة لتقول للعالم: نحن هنا.
نحن الفلسطينيون، وُلدنا وفي أيدينا مفاتيح الحكايات، أبناء الزيتون الذي يُقطع فينبت من جديد، أبناء الأرض التي تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. نحن لا نحمل الحكايات عبثاً، بل نحملها كما يحمل المقاتل بندقيته، نحملها كما تحمل الأم طفلها وقت الخطر، نحملها كما يحمل العاشق وردته رغم العاصفة.
نحن أبناء العناد الجميل، أبناء الذين يعرفون أن الظلام مهما طال لا يستطيع أن يطفئ شمساً وُلدت في القلوب قبل أن تُولد في السماء. الأمل بالنسبة لنا هو تمرّد جميل على الواقع، هو الجسر الذي نبنيه كل صباح لنصل إلى غدٍ لم يأتِ بعد، لكنه قادم لا محالة.
لسنا أبناء العدم… نحن أبناء الحياة، حتى ولو كان طريقها محفوفاً بالألم.
وسنبقى نعيد بناء أنفسنا كما تعيد الفصول ترتيب الأشجار. سنحمل النور في جيوبنا كالأسرار القديمة، حتى يأتي الصباح الذي نُعلن فيه للكون كله:
كنا هنا… وما زلنا.
التفاؤل… زهرة الحياة في وجه العواصف
الأمل وحده لا يكفي دون أن يكون محاطاً بالتفاؤل. فالتفاؤل هو جناح الأمل، وهو النور الذي يكمل المسير. هو أن تبتسم رغم كل المآسي، لأنك تعلم يقيناً أن الفجر قادم، ولو طال ليله.
“رغم المآسي لا نملك إلا أن نبتسم، فقد لا تُساوي الحياة شيئاً، لكن لا شيء يساوي الحياة.”
التفاؤل هو العزم الذي يدفعنا للاستمرار. هو أن ترى في المحن منحاً، وفي الانكسار بدايةً جديدة. الأمل يمنحك الطاقة لتقاوم، والتفاؤل يمنحك القوة لتُكمل الطريق.
ولعل أجمل ما قيل في ذلك:
“الإنسان دون أمل كنبات دون ماء.”
“من الأحلام تولد الأشياء الثمينة.”
“الثقة بالله أزكى أمل، والتوكل عليه أوفى عمل.”
إن التفاؤل بالله ليس خياراً للمؤمن، بل هو جزء من إيمانه وثقته أن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. أن تحسن الظن بالله هو أن ترى الخير في قلب المصيبة، وأن تؤمن أن العطاء قد يأتي متنكراً في صورة خسارة.
كيف نصنع التفاؤل؟
بذكر الله: لأن القلب الذي يذكر ربه لا يعرف الضياع.
بالدعاء: لأن الدعاء مفتاح الأبواب المغلقة، واليقين هو المفتاح الأكبر.
بالتفكر في نعم الله: لأن النعمة تدعو إلى النعمة، والشكر باب المزيد.
بمرافقة المتفائلين: لأن النفس تتأثر بمن حولها.
بالتفكير الإيجابي: لأن الفكرة الإيجابية تصنع واقعاً إيجابياً.
بالتوكل على الله: لأن من توكل عليه كفاه، وأعطاه من حيث لا يحتسب.
الأمل ليس كلمات تُقال، بل هو معركة نخوضها كل يوم لنُعيد للروح لونها الحقيقي، لنُعيد للسماء زرقتها المفقودة، لنُعيد للأرض طُهرها الأول.
التفاؤل ليس سذاجة، بل قناعة راسخة أن الله لا يُضيعنا.
نحن أبناء الأمل. نحن أبناء الحياة.