Site icon تلفزيون الفجر

لا تضيّع عمرك في التوافه… العظماء لا ينحنون للضياع

بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

من ينشغل بالتوافه لا مكان له بين العظام…

عبارة تشع حكمة، وتلمع كالذهب في عتمة التشتت، وتختصر دروباً طويلة من التجارب والعبر في جملة واحدة بليغة. نعم، فالعظماء لا يضيعون وقتهم في جمع الحصى على أطراف الطريق، بل يطأون الجبال بثبات، أعينهم شاخصة نحو القمم، لا يلتفتون لصغائر الأمور، ولا يعبؤون بصوت الريح إذا ما مرّت خلف ظهورهم.

العظيم لا يضع سمعه على أفواه النمامين، ولا يريق وقته في مطاردة الظلال، ولا يسمح لعقله أن يكون مرعىً للغيبة أو مرتعاً للتطفل. قلبه مشغولٌ بما يرقى به، وعقله معقود على فكرة تبني لا تهدم، تُصلح لا تفسد، تُنير لا تُطفئ. فكل لحظة تمر من عمره، هي لبنة في صرح منجزاته، وكل نفس يتنفسه، هو زادٌ لطريقٍ طويل نحو المجد.

من يختار التوافه، كمن يطفئ نجماً ليشعل شمعة، أو كمن يترك البحر الواسع ليغرق في بركة راكدة. أما العظام، فهم الذين يتقنون فنّ الصمت حين يكون الكلام لغواً، ويعرفون متى يكون الانسحاب انتصاراً، ومتى تكون العزلة رُقياً. تجدهم منشغلين بأنفسهم لا أنانيّةً، بل ارتقاء، يسابقون ظلّهم في الإنجاز، ويزاحمون الوقت في ساحة الطموح.

ولنتذكّر جميعاً أن أعمارنا أمانة، وأننا مسؤولون عنها يوم تُنشر الصحائف:

“وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه”.

ففي لحظة من لحظات الحقيقة، سيُسأل كلٌّ منا: فيمَ قضيت وقتك؟ هل بنيت؟ هل أثّرت؟ هل تركت بصمتك في حياة أحد؟ أم كنت ظلّاً باهتاً ينشغل بحكايا الآخرين دون أن تكتب حكايتك؟

فقرّر من الآن، أن تكون ممن يُذكرون بخير، ممن يتركون وراءهم أثراً لا يُمحى، وبصمة لا تُنسى، وطريقاً ممهداً لمن بعدهم.

فيا من تريد أن تكون شيئاً مذكوراً، ويا من تتوق للعلوّ والخلود، ارفع بصرك عن السفاسف، وانظر إلى موضع قدميك، فإنك إمّا أن تسير في درب الكبار، أو تتيه في زواريب الصغار. خيارك بيدك، فإما أن تبني مجدك حجراً فوق حجر، أو أن تضيّع عمرك في عدّ أنفاس الآخرين.

حدد موقعك، وابنِ ذاتك، وامضِ في طريقك غير عابئٍ بالصدى خلفك، فإن العظماء لا تلتفت رؤوسهم إلى الوراء، بل تتجه دوماً صوب الشمس، حيث يذوب الزيف ويظل الحق مشرقاً.

فالعظمة قرار، والطريق إليها يبدأ من لحظة تصمّ فيها أذنيك عن التفاهات، وتفتح قلبك للمعاني السامية، وتشدّ رحالك نحو هدفك الأسمى دون انحراف. فكن من أولئك الذين إذا مرّوا تركوا أثراً، وإذا تكلموا أحيوا الفكرة، وإذا سكتوا ألهموا.

Exit mobile version