Site icon تلفزيون الفجر

﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ … الأستاذ القاص الأديب أحمد أبو حليوة

بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

ما أبهى أن يترك الإنسان في دنيا الفناء أثراً طيباً، كنسمةٍ عابرةٍ من ربيعٍ لا يذبل، أو كجدول ماءٍ يسقي أرواحاً ظمأى في صحراء الخذلان! وما أجمل أن نلتقي في رحاب الأدب والكتابة بأشخاص يضيئون العتمة، ويحوّلون قسوة الأيام إلى إشراقة أمل. ومن بين هؤلاء يطلّ القاص والأديب الأستاذ أحمد أبو حليوة، كقمّةٍ شامخةٍ في جبال الكلمة، وكغصن زيتونٍ يمدّ ظلاله لكل قلبٍ يبحث عن دفء الحكاية.

عرفتُه أول مرة دون أن أراه، عبر نصوصه المبدعة وقصصه التي كانت تنبض بالحياة. هناك، بين سطور كتبه، كنت أشعر أن الحروف ليست مجرد حبر على ورق، بل أرواحٌ تمشي وتتنفس وتتكلم بلسان الأرض والإنسان. أسلوبه كان أشبه بعزفٍ موسيقيّ على أوتار القلب، حيث تتماوج الكلمات كما تتماوج سنابل القمح في حقول فلسطين، وحيث تتكلم الورقة كما لو أنها صارت كائناً حياً يبوح بأسراره العميقة. لقد منحه الله موهبة صافية ونعمة القبول، فصار حضوره يتقدّم اسمه، وإبداعه يفتح الأبواب المغلقة في قلوب القرّاء.

وعندما اجتمعنا في كتابنا المشترك “نقرأ بإبداع.. نكتب بحب” مع الأستاذ والأخ رائد عساف، كان لنا شرف أن نكتب قراءة انطباعية عن مجموعته القصصية “على قيد اللجوء”. ويا لها من رحلة روحية بين نصوصه! هناك، رأيت الوجع يتنفس، والروح تحاور الزمن، والتاريخ يمشي على قدمي الحكاية، وكأن قصصه لوحات زيتية تتحرك في فضاء الذاكرة. كان قادراً على أن يقتنص اللحظة، فيحوّلها إلى مشهد حيّ، فتشعر أنك أمام شاشة سينمائية، لكنّها شاشة الروح، حيث تتجسّد الأحداث بعمق يلامس الوجدان ويستقرّ فيه طويلاً.

ثم شاءت الأقدار أن أتشرف بلقائه وجهاً لوجه في حفل إشهار كتابنا المشترك. وهناك، رأيته متواضعاً كالمطر حين يهبط على الأرض، وداعماً كالسند حين يشتدّ الطريق. كان ينتقي كلماته كما ينتقي البستاني أثمن زهراته، ويمنحك شعوراً أنك تعرفه منذ زمن بعيد، كأنه صديق طفولتك الذي غاب عنك وعاد، أو كأخٍ روحيّ ينتظرك على مفترق العمر.

وزادني شرفاً أن استضافني في برنامجه المباشر على منصة فيسبوك “سهرة مع أحمد أبو حليوة” في الحلقة رقم (339). كان اللقاء أشبه بمجلس أدبيّ قديم، حيث تسكن الألفة القلوب قبل الأجساد، وحيث تتنفس الكلمات بحريةٍ دون تصنّع أو تكلّف. جلسنا ساعةً من الزمان، لكنها بدت كأنها لحظة من الدهر، امتلأت بالصدق، والعفوية، والحوار العميق الذي يعكس إنسانية هذا الأديب الكبير. وما أجمل ما كتب عن هذا اللقاء! فقد منحني من كلماته وساماً يزيّن أيامي، وترك أثراً لا يمحوه الزمن.

كتب قائلاً:

“على مدار أكثر من ساعة من الزمن ومن خلال برنامجي الفيسبوكي الأسبوعي المباشر “سهرة مع أحمد أبو حليوة” دار حوار بيني وبين الصديقة والأخت الدكتورة تهاني بشارات التي يحمل رصيدها في التأليف خمسة كتب منها كتابان مشتركان، والكتب توزّعت مواضيعها بين النثر والخاطرة والمقالة والسيرة والدراسة والبحث، وآخرها كان في مجال النقد، وهو كتاب “نقرأ بإبداع .. نكتب بحبّ” الذي ألفتْه بالشراكة مع الصديق والأخ رئيس منتدى الفريق الإبداعي للثقافة والفنون الكاتب والكابتن رائد عساف، وفيه نُشِرت قراءة نقدية انطباعية مهمة عن مجموعتي القصصية الأخيرة “على قيد اللجوء”، تعدّ من أجمل المقالات النقدية الانطباعية التي كتبت بلغة بالفعل ملؤها الحبّ والاحترام والتقدير والإبداع.

في هذه الحلقة أسعدني في مقابلة الدكتورة تهاني بشارات، أنها تكلّمت بعفوية وصراحة عن حياتها، مظهرة دور والدها المرحوم في التأثير على شخصيتها وتعليمها الكثير، مستحضرة أثر أمها الطيب في حياتها وفي تعلّمها وتعلّم إخوتها، لاسيما وأنّ تهاني كانت حريصة على العلم منذ صغرها، كما أنّها تحملت جزءًا من المسؤولية بسبب أنّها المولود البكر لوالديها في عائلة فلسطينية كبيرة، وأثبتت للجميع قوة شخصيتها وتحدّيها للصعوبات الكثيرة التي واجهتها ومنها الاحتلال الصهيوني لاسيما أنها ابنة مدينة جنين، التي حرصت على إكمال تعليمها وحصولها على شهادة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي من ماليزيا.. البلد الذي تعلمت منه قيمة الطيبة وأهمية التواضع والأثر الإيجابي العميق لاحترام الآخر.

هذا وقرأت بعض النصوص من كتبها التي أثبتت حجم ما تتحلى به من عاطفة مرهفة، وقدرة كبيرة على التعبير المبدع المغلف بكل ما هو جميل، لتثني بعد ذلك على هذا البرنامج القريب من القلب والمفيد والعفوي في كثير من تفاصيله الدافئة.”

وحقاً، لم تكن تلك الكلمات سوى انعكاسٍ لروحٍ نقيّة، تعكس مدى صدقه وعمق إنسانيته. فالأستاذ أحمد أبو حليوة ليس قاصاً فحسب، بل هو إنسانٌ يحمل في قلبه خفقة الوطن، وفي قلمه صوت الأرض، وفي رؤيته حنين الذاكرة الفلسطينية التي لا تموت.

كل الاحترام والتقدير والشكر لأستاذنا الفاضل القاص والأديب أحمد أبو حليوة، على إنسانيته المتواضعة، وأدبه الراقي، وإبداعه الذي يترك في القلب أثراً لا يُمحى، كأثر الطيور في السماء، وكخيوط الشمس التي تظلّل الدروب مهما طال ليلها.

Exit mobile version