المخرجة والأستاذة والفنانة الشاملة امتياز المغربي
بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
حين نذكر الأسماء التي تُخلّد في الذاكرة لا لأنهم مرّوا عابرين، بل لأنهم تركوا في الأرواح بصمةً لا تُمحى، يأتي اسم امتياز المغربي في مقدّمتهم. هي ليست مجرد مخرجة أو فنانة، بل هي حالة إنسانية وفنية فريدة، تجتمع فيها النعومة والصلابة، العذوبة والإصرار، والعطاء الذي لا ينضب. في حضورها تشعر أنك أمام إنسانة استثنائية تنسج من الصدق خيوط الإبداع، ومن البساطة جمالاً عميقاً، ومن الطموح جناحين لا يعرفان التوقف.
التقيت بها أول مرة عبر رسالة دافئة تدعوني للمشاركة في بودكاستها الأسبوعي “بودكاست مع المخرجة امتياز المغربي”. لم يكن الأمر مجرد دعوة إعلامية، بل كان بوابة عبورٍ إلى عالمٍ من الأصالة والإلهام، عالم تصنعه امرأة فلسطينية مبدعة آمنت بأن الكلمة والفكرة والصورة أدوات لتغيير الوعي وإحياء الأمل. كان حديثها يحمل نغمةً من الطمأنينة، وكأنها تملك قدرة سحرية على جعل الآخرين يثقون بما فيهم من جمال وقدرة على التعبير.
وحين بدأنا تسجيل الحلقة، وجدت نفسي أمام تجربة مختلفة تماماً. لم يكن الحوار نمطياً أو تقليدياً، بل كان أشبه برحلة في أعماق الذات، جلسة روحٍ صافية تُشبه نسيم المساء حين يمرّ على قلبٍ مشتاق. أسلوبها في الحديث صادق حدّ الدهشة، ونبرتها تجمع بين الحنان والحكمة، فكانت الأسئلة تنساب كما ينساب نهرٌ رقراق بين ضفّتين من المودة والاحترام. نسيت أنني أمام كاميرا وميكروفون، وشعرت أنني أمام أختٍ تعرف أسرار النفس دون أن تُسأل، وأن الحوار بيننا ليس توثيقاً إعلامياً بقدر ما هو بوح إنساني يلامس القلب.
امتياز المغربي ليست مخرجة فقط؛ إنها منظومة فنية متكاملة تمسك بخيوط العمل من البداية حتى النهاية بإتقانٍ نادر. فهي الكاتبة والمخرجة والمصوّرة والمحرّرة، بل هي القلب النابض في كل مشهد من مشاهد برنامجها. تعمل بصمتٍ جميل وتواضعٍ نبيل، وكأنها تؤمن أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الأضواء المسلّطة، بل بمدى الصدق الذي يصل إلى الناس. ما أدهشني حقًا هو قدرتها على تحويل أبسط الإمكانيات إلى لوحة فنية باهرة، إذ تخلق من اللاشيء كل شيء، وتُثبت أن الإبداع لا يحتاج إلا إلى روحٍ لا تعرف اليأس، وإلى قلبٍ يُحب ما يفعل.
وأثناء الحلقة، أخذتني كلماتها إلى مرافئ بعيدة من الذاكرة؛ تذكّرت طفولتي، ومراحل من حياتي كانت نائمة في زوايا النسيان، فإذا بها توقظها بلطفٍ ودفء. كان الحوار معها يشبه عبور طيفٍ من الحنين في سماء الروح، وكأنّ حديثها يعيد ترتيب الفوضى الداخلية، ويمسح عن القلب غبار الأيام.
وفي نهاية اللقاء، شعرت أنني التقيت بإنسانة نادرة، لا يجتمع فيها الفن والجمال والإبداع فحسب، بل يجتمع فيها الرقيّ الأخلاقي والكرم الإنساني والتواضع العميق. تعاملها راقٍ كنسمةٍ تمرّ على جرح فتواسيه، وحديثها ناعم كخيوط الفجر حين تلامس وجه الأرض بعد ليلٍ طويل.
إن الأستاذة امتياز المغربي تترك في كل من يعرفها أثراً لا يُنسى، أثراً من طيبةٍ وإنسانيةٍ وجمالٍ داخليٍّ ينعكس في كل عملٍ تقدّمه. هي نموذج للمرأة الفلسطينية التي واجهت الصعوبات بالعزيمة، وحوّلت التحديات إلى إنجازات تُفتخر بها. إنها الدليل الحيّ على أن النجاح ليس وليد الحظ، بل ثمرة الإصرار، وأن الفن ليس زينةً للعالم بل رسالة تُعبّر عن وجع الإنسان وجماله في آنٍ واحد.
حقاً، إنما الإنسان أثر، وأثر المخرجة والفنانة امتياز المغربي سيبقى خالداً في ذاكرة من عرفها، ومضيئاً في دروب من سيأتي بعدها. هي امتياز في اسمها وفي جوهرها، امتياز في عطائها وإخلاصها، امتياز في قدرتها على الجمع بين الحلم والعمل، وبين الفن والإنسان. وبصدق، فإنّ من يعرفها يدرك أن بعض الأرواح تُخلق لتُجمّل الوجود، وأنّ امتياز المغربي هي واحدة من تلك الأرواح النادرة التي كلّما مرّت في حياتك، تركت فيك شيئاً من الضوء لا ينطفئ.








