مهرجان شاشات: هل المرأة المعاقة أنانية عندما تقرر الإنجاب؟
تلفزيون الفجر الجديد– في فيلم المخرجة فادية صلاح الدين الذي يعرض ضمن مهرجان شاشات التاسع لسينما المرأة في فلسطين رغبة ما بسرد حكاية امرأة من ذوات الاحتياجات الخاصة وقف المجتمع ضد تمكنها من الحصول على حقها في أن تتزوج، وبعد أن تحدته وتزوجت وقف في وجهها لمنعها من الحصول على حقها في الإنجاب. تلك المرأة هي ردينة أبو جراد، وهي اليوم أم لأربعة أطفال رغم كونها تعاني من إعاقة تجعلها تستخدم كرسي متحرك.
إعاقة عدم القدرة على المشي على الأقدام تبدو مسيطرة على مخرجة الفيلم، حيث يكتشف المشاهد كم هي رغبتها بقول الكثير عبر الأقدام الصغيرة لأطفال "أبو جراد" التي تظهرها الكاميرا مشدودة للأرض لعباً وفرحاً وبحثاً عن حرية ما، الكاميرا التي تنزل لمستوى الأقدام الصغيرة ترصد أطفال الأم المقعدة، لتقول الكثير بصرياً، لتؤسس رواية الفيلم المركزية، وترسل مقولاته بثقة وبصلابة، كأنها رغبت أن تخبرنا عبر أقدام أطفالها الأربعة التي تتحرك في حوش البيت البسيط أنها وبفضل الله خالفت توقعات الناس.. وأن الله مَن عليها أولا بالإرادة التي كانت كافية لترفض الانصياع "لمُخَلَّفات" المجتمع الاجتماعية وأحكامه المطلقة عن
النساء المقعدات من دون النظر إلى كونهن راغبات بالحياة والعيش مهما كانت حالتها الجسدية.
يكشف لنا الفيلم أن الإعاقة الحقيقة ليست لدى "ردينة أبو جراد" أو حتى زوجها الذي لم نره مطلقا في دقائق الفيلم الوثائقي القصير بل في عقول الناس التي ذهبت متطوعة لتخبر أهل عريسها الذي يشبهها في معاناتها بكونها لن تنجب، وإنها أن أنجبت ستلد أطفالا يعانون من الإعاقة أيضا.
الفيلم أيضا لا يضعنا في سبب إعاقة المرأة أبو جراد وكأنه لا يريد أن يغوص عميقاً في السبب الطبي واحتمالات الإعاقة ورثيا عند الأبناء لكونه يرغب في تجاوز هذه المسألة، التي تعتبر من اختصاص الأطباء، وصولا إلى المشكل الحقيقي والذي يتمثل بالمجتمع الذي يتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بمسلمات لا يمكن النيل منها، فكيف والحال مع الأنثى التي يكون لها نصيب مضاعف من المعاناة.
وفعلا، يمنحنا الفيلم مساحة للخيال عبر طرحنا أسئلة من نوع: ماذا لو استسلمت هذه المرأة لتوقعات الناس وأحكامهم المطلقة وتحذيراتهم؟ ماذا لو توقفت عن الحلم؟ ماذا لو لم تمتلك الجرأة لمعاندة تلك التوقعات التي تشبه الكوابيس؟ من كان سيمنح هذه الأم تلك الفرحة، من كان سيمنحها تلك البهجة في أن تلوِّن برفقة أطفالها رسوماتهم الجميلة والحالمة معا؟ كما أظهرها الفيلم في مشاهده الأخيرة.
تلك الأسئلة الحارة ستلسع المتلقي، وستضعه أمام الحقائق الصغيرة، كما أن الفيلم يجود علينا بمخاوف الأم قبل الولادة من أن يكون أحد أطفالها معاقاً، وحالتها النفسية بفعل توقعات البيئة المحيطة، تلك الأم التي لا تبدو مختلفة عن أي أم أخرى، نراها تلاعب أطفالها الفرحين، تشرف على تربيتهم، تطعمهم، وترعى شؤونهم فيما هم يبادلونها بالمثل في مشاهد مليئة بالحب والرعاية.
حيلة ذكية
تستخدم المخرجة صلاح الدين حيلة ذكية في فيلمها الجديد حيث لا تضعنا في سبب معاناة "الأم ردينة"، الكاميرا لا تقدمها على أنها تسير على كرسي متحرك، وهي تتحدث من دون أن تذكر شللها مطلقا، لدرجة يتملكنا الشوق لمعرفة سبب معاناتها بعد أن أحببناها وأطفالها المترعون بالفرح، فقد ألفناها وتقبلناها على أنها امرأة عادية بعيدا عن ما يختزن عقولنا من تصورات مسبقة.
يبدو ذلك بناء ذكيا في الفيلم ويدلل على وعي من المخرجة ورغبة منها في عدم التركيز على تلك القضية التي لا تعتبر جوهرية، وهو ما يرفضه المجتمع ويصر على عدم التعاطي مع ذوي الاحتياجات الخاصة بصفتهم بشر كاملي الأهلية، الفيلم عكس ذلك وأظهر انحيازه فكرياً وبصرياً، فحياة الأم بدت متكاملة وتسير بطبيعية مطلقة سواء بكرسي متحرك أو من دون كرسي متحرك، ولو لم تظهر "الأم ردينة" في نهاية فيلمها على كرسي متحرك ما أدركنا ذلك.
فعملية تأخير ظهور الكرسي المتحرك وتقليل حضوره في بنى الفيلم مثل رغبة من المخرجة في أن تقول
أن هذا الكرسي ليس أصلا، إنه جزء هامشي في حياة هذه المرأة الجريئة والعظيمة معا، وهي فعلا قالت ذلك، قالت أن هذه المرأة الصلبة والقوية هي إنسانة بالدرجة الأولى.
تلك الأم مثالا يحتذي من دون صخب أو خطابات، هي امرأة بسيطة رغبت أن تعيش حياتها، فأثبتت أنها قادرة على التصرف بصفتها إنساناً قادراً على الحياة، وهي كما ترينا الكاميرا ملكة في قرارها كما هي ملكة في منزلها وأطفالها.
فيما نقص الفيلم حضور الأب، وحسبي أن لقطة واحدة كانت تكفي، فقصة نجاح ردينة أبو جراد في تحدى مخلفات المجتمع لها بطلان، صحيح أن المرأة جوهرها وأن التحدي الصعب وقع عليها لكن الزوج استحق أن يظهر ولو بابتسامة رضا وأمل ودعم لزوجته.
في بداية الفيلم طالعنا شريط المخرجة صلاح الدين بالفتيات الصغيرات ينشدن أغنية الطفولة الأثيرة والبسيطة: "فتحت الوردة.. غمضت الوردة"، تلك الأغنية التي تعني انطلاق الأطفال للحياة منذ لحظة تفتحهم عليها، فيما المشهد الختامي الجميل فجاء من خلف عجلات الكرسي المتحرك الذي تجلس عليه "الأم ردينة" وعبره نرى الأقدام الصغيرة تتقافز أمام هذه الأم وتبدو أقدامهم تتحرك بقوة لتعلن ميلاد جديد.
ويأت الفيلم ضمن مجموعة أفلام تعرض ضمن مهرجان شاشات التاسع لسينما المرأة في فلسطين، يتم ضمن إطار مشروع "مُخَلَّفات" الذي تنفذه مؤسسة شاشات، وحصل على تمويل رئيسي من الإتحاد الأوروبي وتمويل إضافي من مؤسسة هنريش بول، ومؤسسة تفي-بيت النرويجية، والقنصلية الفرنسية العامة في القدس.
و"مُخَلَّفات" هو مشروع سينمائي مؤلف من عشر أفلام ومائة عرض ونقاش في الضفة والقطاع، وثلاث حلقات تلفزيونية، ويشمل إنتاج "شاشات" لسبع أفلام جديدة، ثلاثة من الضفة وأربع من غزة، وجميعها تسلط الضوء على مجموعة من القضايا التي نرفضها في محيطنا ونعتبرها جزءا من تلوث حياتنا على الصعيد الثقافي والاجتماعي والبيئي.



