لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

عمر عمارة أسطورة كفاح وإرادة لا تعرف الكلل



كتبت : تسنيم سليط

في بيته المتواضع وعلى اريكتهِ الخضراء، يجلسُ عمر امامَ شاشةِ التلفاز يتابعُ الاخبار، وما يجري حوله من أحداثٍ متتالية، حدثني … فاحتار قلمي من أين يبدأ!! فهناكَ العديدُ من الأحداثِ المشوقة في حياة ذلك المكافح العظيم.

أسند ظهره وعدل جلسته ثم حدقَ بالأرض لبرهةٍ من الزمن، ولم ينطق بأي كلمةٍ بعد، فحياته المليئة بالأسرار المعلنةَ تحيره من أين يبدأ: أبطفولته؟ أم برجولته؟ أم بكفاحه؟.

تنهدَ تنهيدة مطولة ثم بدأ بالحديث معرفا عن نفسه"أنا عمر محمد حسين عمارة مواليد 22/2/1933م من قرية مسكة جنوب غرب طولكرم، عشتُ في أسرةٍ بسيطةٍ مكونةٍ من والدي الحاج محمد عمارة ووالدتي الحاجةَ عائشة مشارقة وأنا الأخ  الشقيق الوحيد لأخواتي الثلاث.

86 عاما لم تمح من ذاكرة عمر مسقط رأسه "مسكة"، التي هجر الاحتلال الإسرائيلي أهلها عام 1948، ودمرها بالكامل وزرع مكانها حرش كينا، في محاولة منه لطمس معالم الحياة الفلسطينية التي كانت سائدة فيها.

بدموع سخية نزلت على خد أنهكه مرور الزمن وذاكرة قوية، وقلب كبير استذكر قريته مسكة بأدق تفاصيلها اليومية واخرج عدة ورقات من مكتبه كتب فيها كل ما يجول في خاطره عن قريته التي لطالما اخذه الشوق اليها فقال:" أكتب خوفا من النسيان، فالعمر يمر وأخاف من أن أنسى فتنسى الأجيال".

اضاف عمارة قريتي مسكة ولدت فيها وعشت 15 عاما من عمري قبل أن أتركها عنوة، وهي احدى قرى طولكرم منذ العهد التركي والانتداب البريطاني تبعد (15) كم، ومسكة حسب عمارة ارض زراعية وأهلها يملكون 12 الف دونما من اخصب الاراضي، جميعها مزروعة بجميع انواع الخضار والفواكه والحبوب.

أما عن الأيام المشهورة بها قرية مسكة فهناك يوم البيض حيث يقوم أهالي القرية بسلق البيض ولفه بأنواع أزهار عدة لتلون بألوانها وتوزيعها بينهم، ويوم البحتة (أكلة مكونة من الأرز والحليب) التي يطهونها أهالي القرية في ذاك اليوم وأكلها عوضا عن الوجبات الأخرى.

كان طفلاً

عمر الطفل المدلل لدى افراد العائلة والوجه البشوش دائما، كان من صغره محنكا ويعي كل ما يدور حوله من احداث، فوالده كان دائما ما يصحبه الى مجالس الكبار فيتحدثون فيما بينهم عن نوايا الاحتلال وما سيحل بهم في المستقبل.

كان عمر يقضي جل وقته بين زوايا الكتب وفي الفلاحة فهو كالرجال رغم صغر سنه ، فكان يهتم بأراضي العائلة قال عمر:" نملك اكثر من 12 دونم من اراضي مسكة،  كنا نزرع فيها الخضراوات والفواكه و الحبوب،  و في كل موسم نحصد نتاج الارض ونأخذ ما نحتاجه ثم نتبرع بما تبقى لأهالي القرية".

درس عمر في الكتاتيب بعد بلوغه سن السابعة في احدى غرف منزل استاذه  الشيخ عبد الرحمن الجيوسي، -وكان لقب الشيخ في القرية يرمز الى المثقفين والمحنكين وأصحاب الأموال –  فهو الغليظ الذي لا تفارق العصا يده، تحدث عمر بفخر" شيخي كان يفرق بين الطلاب فنحن كنا 11 طالبا يجلس الاول على اليمين والثاني في الوسط اما الاقل اهتماما بالتعليم  فعلى شماله،  كنت دائما ما اجلس في المقدمة وعلى الجهة اليمنى، لأني لطالما كنت مجدا في دروسي متعطشا للعلم وحافظا لآيات الله، كنا نتعلم الكتابة والقراءة ونحفظ بعض من كتاب الله، وفي نهاية الأسبوع يقدم كل طالب للشيخ سبع بيضات أو خمس قروش كأجرة له على تعليمه لنا"،  وفي سن الثامنة انتقل الى المدرسة التي انشأها الانتداب البريطاني عام 1941 وتتكون من غرفة واحدة تقسم من بين طلاب الصف الأول إلى الرابع.

وبعدما أنهى الصف الرابع اضطر عمر للانتقال إلى مدرسة قرية الطيرة لإكمال دراسته فيها، لعدم توفر مدرسة تكمل المراحل الاخرى في قريته، تابع عمر:" تبعد الطيرة 2 كيلو متر عن قريتي وكنت أذهب إليها سيرا على الأقدام  صيفا و شتاء، وانتهت مرحلتي الدراسية بانتهاء الصف السابع."

لم تخلُ حيات الطفل من المشاكسات واللعب مع ابناء جيله، فتميزت الالعاب في الأربعينيات بالبدائية فكانت الحجلة والحبلة اكثرهم اقبالا، واقرب الألعاب  الى قلبه "يهود وعرب" التي لطالما لعبها وكان هو العربي الذي ينتصر على عدوه دائما.     

رحلة العذاب

لم تسلم ذاكرة عمر من ذاك اليوم الذي جاء معلنا قرع طبول الحرب، ولا من ذاك الانذار الذي يحمل بجعبته مأساة حلت على أهل القرية، ففيه أجبروا على ترك معشوقتهم ليكون آخر صباح يشاهدون الشمس فيها.

يتحدث عمارة:" نص الانذار على ثلاثِ خياراتٍ،  أولها تسليم أسلحة المقاومين والعيش بقريتهم تحت العلم الاسرائيلي، أما الثاني فكان الهجرة وآخرها المقاومة في حال رفضهم للخيارين السابقين، فرفض كبار القرية الخيارات كلها وقرروا الاستعانة بجيش الانقاذ الموجود في الطيرة،" وهو جيش من المقاتلين من الدول العربية كافة   المتحمسين للدفاع عن فلسطين والتي كونته الجامعة العربية لمساعدة الشعب الفلسطيني في نكبته، لكن لم ينقذهم الجيش لعدم قدرته على الخروج من الطيرة حتى لا يسيطر عليها الاحتلال.

لم يبق أمام أهل القرية سوى الرحيل إلى مكان ليس ببعيد فكانت الطيرة وجهتهم، فحملوا ما تيسر من أمتعة أملا منهم بالعودة إلى قريتهم عما قريب، قال عمر:" أخذت حقيبة المدرسة بما فيها كما حملت بيدي دفتر الحسابات لأحفظ أموال والدي."  واستقبلهم اهالي الطيرة بحفاوة فمن لديه بيت كبير اسكن عائلة منهم معه، فبتوحيدهم زادت ذخيرة جيش الطيرة.

بعد احتلال مسكة بأيام قليلة هاجم الاحتلال الطيرة ثلاثة مرات لكنه لم يستطع أن يهزم المقاوم الفلسطيني، ففي المعركة الثالثة قتل أحد المقاتلين جندي إسرائيلي كان يختبئ خلف شجرة وبحوزته 3 صناديق من الذخيرة، ويتابع عمر:" كان كل صندوق يحوي 1000 طلقة صنعت في السنة ذاتها، وتم توزيعها على المقاتلين، كما ساعدنا 30 مقاتل من قرى مجاورة حيث حاصروا الجيش الإسرائيلي لنخرج من المعركة منتصرين، فاستعان الجيش الاسرائيلي بالصليب الأحمر لسحب قتلاه بعد كل معركة."

في ظل تلك الظروف الصعبة – فقر وتجويع و حصار- وتحت اجيج الرصاص وصوت المدافع، ورغم سنه الصغير الذي لم يتجاوز 15 عاما  كان عمر يتخبط محتارا كيف له أن يؤمن لقمة عيش لعائلته، قال عمر:" كنا نجلس أنا ووالدي نتضور جوعا فقمت بعمل كوب من الشاي لنسكته، ابتسم والدي ثم قال لي اذهب الى الجيش العراقي واسكب لهم منه وخذ قرشا على كل كوب، في بادئ الامر استوحشت الفكرة ولكن لا خيار أمامي سوى أن اذهب، وبدأت اقدم الشاي "للشاويش" وللعساكر حتى نفذ ما بداخل الابريق عدت ومعي    11قرشا، كنت في اوج فرحي فقد امنت قوت يومنا شعرت وقتها بفخر شديد، وأصبحت بعد ذلك تلك مهنتي وكنت اكسب منها ما يقارب 50 قرشا يوميا."

معاهدة رودس 1949

"كلمات أصبحت بديلة عن الطلقات

عدونا الصهيوني، هنيئا لك

بكل طلقة ستطلقها

سنطلق عليك وابلا من الكلمات والكلمات"

تواطؤ العرب لم يكن يوما بجديد ففي عام 1949 وقع الملك الأردني عبد الله الأول مع الجانب الإسرائيلي معاهدة رودرس التي بموجبها تم تسليم المثلث و60 ألف دونم من أراضي فلسطين للاحتلال، بعد رفض العراق التوقيع عليها، وعاد عمر بذاكرته قائلا:" اشترت إسرائيل هذه الأراضي من الأردن ب 7.5 مليون دينار مقابل تسهيل تسليم المثلث وحفاظ الملك عبد الله على عرشه."

بعد توقيع المعاهدة خرج الجيش العراقي من فلسطين تاركين وراءهم حلما لم يتحقق، باكين على خيبة أملهم بتحرير فلسطين، واستيقظ أهالي الطيرة على مكبرات منع التجول ورفع العلم الإسرائيلي في أراضيها وأجبرهم الاحتلال على تسليم أسلحتهم كما منع رفع الأذان فيها.

لم يكن أمام عائلة عمر خيارا سوى الرحيل بعد فقدان الأمل بالعودة إلى مسكة، فاهتدوا إلى طريق اللجوء إلى مدينة طولكرم وأوضح عمر:" ذهبنا للحاكم العسكري لنعلمه بقرار رحيلنا فخيرنا بين مدينتي طولكرم وقلقيلية ووقع أبي على ورقة الرحيل لتسهيل مرورنا عبر الطوق الأمني المفروض على القرية."

 

الانتقال إلى طولكرم

بعد 15 كيلو متر من المشي على الأقدام وصلت عائلة عمر إلى طولكرم حيث الأجساد المنهكة ولا بيت يؤويها فقد حل الظلام فما كان منهم إلا أن أقاموا عرشا في مقبرة المدينة، وبعد يومين من المكوث فيها دون طعام أو شراب يسكت جوعهم، ذهب والد عمر لمركز وكالة الغوث في مخيم طولكرم لتسجيلهم كلاجئين كي يحصلوا على خيمة فيه وكان رقم تسجيلهم 36، ويستذكر عمر:" كانت الخيمة للنوم والطبخ وقضاء الحاجة، وعانينا من هبوب الريح وهطول المطر اللذان كانا سببان في سقوط الخيمة علينا، فنجلس منتظرين توقف المطر لإعادة نصب الخيمة."

مر المخيم بفترة فقر مدقع حيث لا يستطيع أهاليه شراء الخبز فاتخذوا التمر بديلا عنه ليسدوا جوعهم واستمرت هذه الحالة لما يقارب السنة وسميت بسنة التمر عام 1951.

رجولة مبكرة

رغم سنه الصغير الذي لم يتجاوز السابعة عشر ونحالة جسمه المفرطة إلا أنه كان رجل البيت فوالده كهل لا يقو على العمل، فانتقل عمر إلى الأغوار ليعمل في مجال الفلاحة بعد أن تواسط ابن عمه ليكن عاملا عند أحد مالكي الأراضي، ويروي عمارة:" كنت أشرب من المياه التي تشرب منها الدواب وأنام مكان نومها بصفتي عاملا، وأعمل من طلوع الشمس حتى مغيبها مقابل 15 قرشا شهريا."

قليلة هي المواقف التي يستيقظ فيها الإنسان من سباته ليقرر أن يكون أو لا يكون ويقص عمر الحكاية التي جعلته يفكر بنفسه ويغير مسار حياته قائلا:" كنت أعمل ظهرا تحت أشعة الشمس الحارقة أتصبب عرقا وبيدي فأس لطالما سال دمي بسببه، شممت رائحة عطر رجالي من بعيد وعندما رفعت رأسي لاكتشف هوية صاحبه رأيت مالك الأرض بأبهى حلة ومظاهر النعيم واضحة عليه، فقررت أن أصبح مثله لا عاملا لديه."

بعد 3 سنوات من العمل في الزراعة جمع عمر ما يقارب 40 دينار وعاد إلى طولكرم ليبدأ رحلة جديدة في البحث عن مهنة يستطيع كسب قوت عيشه منها ويشق طريق جديد نحو مستقبل أفضل، فتعلم مهنة الخياطة وكان حارسا للمخيم في الوقت ذاته، وبعد إتقان المهنة اشترى آلة الخياطة التي تعلم عليها واستأجر مكانا للعمل فيه في المخيم ثم انتقل إلى المدينة ليستأجر مخزنين الأول للخياطة والآخر للوازم الخياطة، وتعلم على يديه 11 شخصا.

حياة زوجية

كانت جلسة مسائية، عند الغروب بعد أن تلاشت كل الحواجز بينا، ما جعله يتحدث بطلاقة عن ذاك اليوم وما جرى فيه من احداث، فلم تكن فكرة الارتباط تستحوذ على تفكيره، بل عاطفيته وحبه للوطن وللقضية هو من جعله يقدم على هذه الخطوة.

فتحية حسين عبد الله هدروس فتاة في مقتبل العمر سرق الاحتلال منها والدها وتركها عليلة فاقدة النصف الاعلى من قدمها، بعد أن هدم عليها منزلهم القاطن في قرية البزور قرب يافا، لتكون شاهدة على جرائم الاحتلال في نكبتنا، وفي هذا قال عمر:" لم أذهب لطلب فتحية كالآخرين وإنما والدتها عرضت علي الزواج ببنتها، بعد يومين من التفكير وافقت، رغما عن أهلي،  لأنها ضحية احتلال فما أرادها تنجب أبطالاً يرفعون علم فلسطينَ عاليا، ولمعرفتي القريبة منها فهي كانت تعمل لدي في الخياطة، فهي مثقفة وقارئة. "

لم يٌشعر عمارة زوجته يوماً أنها ناقصة عن أي زوجة،  بل كانت أيامهم تملؤها الحب والعطف، والتشاركية ،فلم يمنع عمر يوماً عمله أو رجولته وكلام الناس عن مساعدة زوجته بأعمال المنزل، وتربية الأطفال،  فبعد عام من زواجه أنجبت فتحية طفلة كالبدر اسمتها نادية، فوزع الحلوى على اهالي الحي بهجة بقدومها.

نادية اولى فرحة ابيها خطفها المرض من أحضانه وهي طفلة لم يتجاوز عمرها 12 عاما، فسالت دموعه حرقة عليها وهو يذكر المواقف التي جمعته بها، لكنها لم تكن الاخيرة فشادية أختها الاصغر توفاها الله وهي رضيعة دون مرض، ثم انتهى مسلسل الموت فقد انجبت فتحية بعد ذلك 6 فتيات و6 فتية كان أكبرهم محمد حاملا اسم جده، تلاه جمال على اسم جمال عبد الناصر، فعبد الحكيم على اسم عبد الحكيم عامر قائد الجيش المصري، ثم صلاح الدين تيمنا بصلاح الدين الايوبي الذي حرر فلسطين من يد الصليبيين، فعبد السلام، فختامهم كان ياسر تيمنا بياسر عرفات .

 1967 والمخترة

في عالم يسوده الظلام  وأصوات الطائرات والغارات ، وأيام مريرة  عادت  لترسم لوحة سوداء ملطخة بدماء الأبرياء في ظل صمت عربي وإسلامي…..، لم تسلم ذاكرة ابو محمد من الحروب المتتالية والتي كان ضحيتها ابناء شعبنا الفلسطيني، فاستذكر اذاعة صوت العرب والتلفزيون الاردني والإسرائيلي، قائلا:" تعرضت للضرب المبرح من الشاويش الأردني  وتهمتي استماعي لصوت العرب، فقد كانت جريمة يعاقب عليها الجيش في تلك الآونة ، لأنها مصرية فقد كان جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية وكان يحارب ضد الاحتلال والمحتل ، و اذا اردت الاستماع او المشاهدة فعليك ان تشاهد التلفاز الاسرائيلي او الاردني فقط."

لفصاحة لسانه وبلاغة منطقه، وثقافته التي تزداد بازدياد الأيام، اختير أبو محمد ليكون مختاراً من قبل أهالي المخيم، ممثلا عنهم أمام الحاكم العسكري والجيش الأردني لتبدأ رحلة المخترة التي لم تخلُ من الأحداث و الأحداث، أغلق محل الخياطة وفتح مكانه مكتب للطباعة والخدمات العامة فعلى حد تعبيره :"الخياطة وجعة راس".

بحماسة يروي ابو محمد مرحلة توليه المخترة قائلا:" أعلن الحاكم العسكري انذاك عن اعطاء الصلاحية لمن يجيدون اللغة العبرية في اتمام اجراء المعاملات وامتلاك الة كتابة وتصوير للهويات والمعاملات الاخرى ، وكنت انا لحسن الحظ متمكنا منها، فقد علمني اياها ابن عم لي يسكن في الطيبة، ثم جاء كتاب للحاكم باعتمادي لتصوير الهويات في طولكرم  و اي صورة تصلهم لم اوقع عليها ترفض تماما."

 

انفجارات الكويت طريقه الى المنظمة

ككل الأعوام السابقة لم يمر عام 1983 بخير على الشعب الفلسطيني، فالأحداث العربية المجاورة لابد وأن يكن لفلسطين نصيب الأسد منها، لكنها أثرت على حياة أبو محمد لتغير مساره نحو المنظمة، ففي ١٢ كانون الثاني  من العام ذاته حدثت تفجيرات الكويت على سفارتي الكويت وأمريكا والمطار الرئيسي للبلاد، حيث كانت تهدف إلى الحصول على أقوى انفجار في مصفاة النفط الرئيسية ومحطة تحلية المياه ومصنع البتروكيماويات في الكويت واستمرت الانفجارات ٩٥ دقيقة متتالية راح ضحيتها خمسة قتلى.

كان السفر إلى الكويت وسيلة ابنه محمد لتحقيق حلمه في إكمال دراسته في تخصص العلوم السياسية لكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن فأحداث ١٩٨٣جعلته عالقا في الأردن لا يستطيع العودة إلى وطنه مدة ٩ أشهر.

"هذا الشبل من ذاك الأسد،" هذا ما يقال عن محمد فقد لفت ذاك الشاب المحب لوطنه وللقضية أنظار أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ما جعلهم يعرضون عليه الانضمام إليهم، لكنه لم يوافق إلا بموافقة والده ولحساسية الموضوع وسريته سافر أبو محمد إلى الأردن لتتم مناقشة الموضوع هناك، وفي هذا الصدد يقول أبو محمد:" تعرضت إلى مواقف عدة لكني لم أعِ أنها بمثابة اختبارات لوطنيتي وصدقي بها حتى أفاجأ بعرض الانضمام لصفوف المنظمة فوافقت بالانضمام وابني."

"من موقعي كمختار كنت أخدم المنظمة فكل المعلومات التي كانت تصلني أرسلها إليها، فعندما يطلب أحد الأشخاص سلاحا يجب أن يوقع الحاكم العسكري على هذا الطلب ولم يكن الحاكم يوقع إلا للجواسيس، فأرسل نسخة من الطلب للمنظمة ليتم تصفيتهم،" هذا ما قاله عمر عن عمله في المنظمة.

شعب محتل، ما بيده سوى الحجر الذي ما عاد ينفع لمجابهة الدبابات والجيش المدجج بالسلاح، فلم يكن أمام المنظمة خيارا إلا شراء أسلحة بسيطة وتوزيعها على مقاتليها السريين في الضفة الغربية في محاولة لنيل استقلال الوطن، وعن إحدى الأوامر التي طُلب من عمارة تنفيذها يقول:" اشتريت أسلحة من أحد أقاربي الذي يسكن في الداخل المحتل وكانت عبارة عن سلاح رشاش ومسدسين وذخيرة ١١٠ رصاصات، وذهبت مع محمد وابني الأصغر عبد الحكيم لمنطقة (ميتة) في قرية جيوس لدفن السلاح فيها، والتقطنا صورا للمكان وأرسلناها لأعضاء المنظمة في عمان ليتمكنوا من إيجادها وتوزيعها فيما بعد،فبعثوا لنا رسالة فحواها انهم لم يستطيعوا الوصول الى الهدف، فقلت لمحمد أن يحرقها حتى لا تكون دليل علي أي شيء لأننا تحت احتلال وهناك حواجز نمر عنها للتفتيش،فخفت أن تمسك معه ."

سجين وتهمتي الوطن

عتمة وظلام الأقبية، وخلف القضبان الحديدية، والوجع اليومي والمعاناة والقهر الذاتي، وزنزانة بمساحة قبر يؤنسه فيها حلم النصر، فيحضر الكل في الذاكرة الاخوة والاخوات الزوجة والأولاد ، فتزدحم الاصوات وتنهار اسوار السجن، لترسم الحرية بنظره، فورقة مربعة مخطوط عليها بعض الكلمات كانت كفيلة بأسر بطل، وصولها ليد جنود الاحتلال كشف المستور، و أحال نصف عائلة الى تحقيق عنصري

وامتثالهم أمام محكمة ليست عادلة، لتنصف الجاني على صاحب الحق.

أُعتقل عمر بعد ليلة من اعتقال ابنه، على خلفية تلك الورقة التي تظهر وجود علاقة بين المنظمة وهم، ولم يكتفِ الاحتلال بذاك القدر بل اعتقل عبد الحكيم وعبد السلام على نفس القضية رغم براءتهم التامة، بعد اعتراف محمد عن والده رغما عنه في تحقيقٍ من جيش لا يرحم، جلس عمارة مكبلا على كرسي والانوار تارة تضيء وتارة تنطفئ وصوت محقق يوجه له اصابع الاتهام، اجاب منكرا على كل الاسئلة، لم يكن يعلم باعتراف ابنه فما كان من المحقق الا ان جاء بمحمد ليفشي بتلك الاسرار التي باتت معلنة، فلم يكن امام عمر الا أن يتكلم بشبه الحقيقة، لتبقى الكاملة معه، يأخذها حيث يذهب.

ملامح الكبر التي بدت عليه وعمره الذي تجاوز الاربعين لم يشفع له امام محتل غاصب فقد نال من اللكمات والشتائم حتى انهار، كما لم يرحموا قلب اب مرهف ليلقى ولده والدم يسيل من سائر جسده،بعد أن أنهى جولة التحقيق الاولى، قال عمر:" ذهب بي السجان الى زنزانة محمد املا منه أن نحدث بعضنا ونكمل الرواية لكن دهاء ولدي كان اكبر من ذلك فقد رأى ظل اسود كصاحبه فأومأ لي بعدم التحدث عن أي شيء، لم نتجاوز بضع دقائق ليعود ويصرخ ممثلا انهم قد اخطأوا بوضعي هنا، فأخذوني الى زنزانتي التي لا يتجاوز طولها المتر الواحد وعرضها المتران، ستكون بمثابة قبر للجسد، ما خرجت منها الا بعد 12 يوم من العزلة والوحدة الروحية فبلغنا 11 شخص نقبع فيها."

أن تحب وطنك وتكافح لتحريره تلك تهمة يحاكم عليها قانون احتلال غاصب فبعد مثول عمارة و أبنائه أمام المحكمة، حكم على الوالد شهران مع وقف التنفيذ، والابن الأكبر خمس سنوات وعبد الحكيم أربع سنوات والتهمة ايصال والده للمكان بسيارته رغم انه لم يكن على دراية بالأمر، اما عبد السلام ثلاث سنوات والتهمة القاء حجرا على جيب اسرائيلي خلال احداث الانتفاضة الاولى في عام 1987 او مسماها الثاني انتفاضة الحجارة نسبة للأحجار التي يستخدمها الشبان للدفاع عن ارضهم ضد محتلها التي انطلقت شعلتها في 9 كانون الاول وانطفأت بعد توقيع اتفاق اوسلو في عام 1993.

ما بعد الحرية

لقد عاد طائر " الفينيق "ليحلق ثانية في سماء بلاده، معلنا بدأ حريته بعد أسره، خرج تاركا خلفه فلذات كبده لتكن فرحته ناقصة، فدمعة أم قد سالت فور استقباله سائلة حال قرة عيناها، ادمت قلبه، لم يتوقف الامر الى هذا الحد بل وبعد يومين من خروجه بعث الحاكم العسكري بأحد رجاله ليخطف منه رزقه ومنها رخصة المحل و المخترة، ليقف حائرا امام هذا الحكم الجائر فقد كان القانون العسكري في ذلك الوقت يجبر أي مختار على تركها بعد حبسه مدة ثلاث شهور، لكنهم تجاوزوا كل الخطوط الحمر فحرموه سبيل عيشه.

حدثني وبسمة ممزوجة بالتحدي رسمها على وجهه أنه:" لم ولن يقف يوما عند أي امر، فقد كان لديه مبلغا بسيطة من المال، لا يمكنه فعل أي شيء فيه سوى أن يحاول ايجاد تاجرا فيه من الرأفة ما تجعله  يبسط الامر ليستطيع فتح "سوبر ماركت" يعتاش منه، وهذا ما حصل فقد قص على فوزي جانم صاحب متجر كبير قصته  ليساعده بكل حب، على أن يعطيه مطلع كل شهر مبلغا من المال يغلق فيه دينه، لكنّ العلاقة لم تدم طويلا فاضطر لتحويل المحل الى مكتبة صغيرة تقيه وطأت الكبر، مر عليها جيلان كاملان حتى بات يعرف بعمارة صاحب المكتبة التي استمرت حتى الان عشرون عاما يبتاع من مكاتب كبيرة ما يحتاجه فيذهب على دراجته التي رافقته اكثر من 50 عاما حتى أضحت هي وسيلته للسفر الى وجهة يريدها."

انتفاضة ثانية

من سلب شعب حقه بالعيش في وطنه، لن يصعب عليه ان ينهبه ماله وذهبه، فكانت وحدة الجولاني تسرق ما ظهر امامها خلال تفتيشها للمنازل، فخلال منع التجول على المخيم في اوج تلك الاحداث سرقت الوحدة ذهبا واموالا عدى عن الاكل والاثاث التي كانت تأخذه عنوة فاتجه 15 شخصا الى عمر طالبين المساعدة ومنه، فذهب هو وسبعة من الوجهاء الى الحاكم رغم المنع الذي لم يفك ساعة واحدة واستمر اسبوع كاملا، لكي يقفون امامه رافضين ما يجري فبادرهم بسؤال "لم انتم راضون عن اولادكم وما يقومون به من تخريب، اذا هذا جزائكم" لكنه لم يجزع ودافع عنهم بكل ما اوتي من قوة حتى رفع المنع وعادت الحياة كما سابق عهدها.

كان الاقتحام الاستفزازي الذي نفذه زعيم المعارضة الإسرائيلية أرائيل شارون  لباحات المسجد الأقصى صبيحة 28 أيلول عام 2000، الشرارة التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعدما منحه رئيس الوزراء في حينها إيهود باراك الموافقة على الاقتحام الذي تمّ بحماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة، فانتفض الفلسطينيون على مسار اتفاق اوسلو لشعورهم باليأس من تحقيق  الاستقلال تحت مظلة هذا المسار.

 

أصبح كهلاً

تعاقب الأيام والأحداث لم تضعف ذاكرة بطل، ولم تمح منها عبق التاريخ، وظهور بعض التعرجات على خديه وكفيه، لم تفصح بقدوم مرحلة الكبر، فالعمر يقاس بكثرة الخبرات  لا بمرور السنين  وهزول الجسد، لديه من العلم ما ينفع ومن الصحة ما تجعله يواظب على ممارسة الرياضة اليومية، فالعقل السليم بالجسم السليم، هذه العبارة من تعطيه الدافعية للنهوض صباحا واخذ كوب من الحليب ليتجه نحو ساحنته المربعة ليبدأ طقوسه اليومية.

في وقت الظهيرة اغلق عمارة المكتبة ليتجه نحو منزله الذي لا يبعد عنها سوى اميال قليلة، ليأخذ قسطا من الراحة ويعود ثانية اليها يكمل ما تبقى من اليوم، لكن قدوم احفاده لم يمكنه من مواصلة العمل فترك كل شيء خلفه وذهب ليحتضنهم، يلتفون حوله يخبرهم عن أرضهم زارعا فيهم حب الوطن، يجلسون كبارا وصغارا منصتين له، خاشعين رغم امتلاء البيت بهم فقد تجاوز عددهم ٧٠ .

 

 

 

      

 

الرابط المختصر: