لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

(بين “أرض البرتقال الحزين” و “أرض الرمال الحزين” أكثر من خمسين عاماً يا غسان..)



رسالة من هذا الجيل إلى الكاتب غسان كنفاني..

قال غسّان، في رواية “أرض البرتقال الحزين”، معادلة مُقنعة جداً:
“الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب، أليسَ كذلك ؟! يقضي نصفها في النوم، بقي ثلاثون سنة، إطرح عشر سنوات ما بين مرضٍ وسفرٍ وأكلٍ وفراغ، بقيَ عشرون، إن نصفَ هذه العشرين قد مضت مع طفولةٍ حمقاء، ومدارسَ ابتدائية، لقد بقيت عشرُ سنوات، عشر سنوات فقط ، أليسَت جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة؟”
نعم صحيح، يجدر بالإنسان أن يعيشها بطمأنينة يا غسان، لكن سأخبرك على لسان جيلنا عن واقع الإنسان الفلسطيني اليوم، الذي يعيش بمختلفٍ عن بقية البشر، فهناك سنوات ضائعة في هذه المعادلة حينما يتعلق الأمر بنا، تجتمع بين ساعات من الوقوف على الحواجز، وأيام من التتبع وملاحقة الأخبار المؤسفة عند كل صباح، والتي قد لا تَبعُد عنّا مسافة شارع، ثم اضطرابات النوم بسبب الاقتحامات الليلية، وشهور من معاناة التذبذب عن ممارسة أعمالنا او دراستنا في ظل عدم توقف الأحداث السيئة، والتي ربما نكون طرفاً مباشراً فيها او حتى بكل ما ذكر، فحينها تُختصر كل سنواتك بغتة من عمرك بأكمله.
دعك من كل ذلك يا غسان، في رواية الإنسان الفلسطيني، الذي كتبتَ عنه بجرأة كاتب كان صوت قلمه دوماً عالياً، تصل إلى جذور الحقيقة بكل ما خطّته يداك وجعلتك بسببه مستهدفاً فيما بعد، هناك رواية “أرض الرمال الحزين”، واقعة غزة التي لايزال ينتابني الفضول في غيابك عنها أن أعرف ماذا كنت لتكتب لو شاهدت ماذا يحدث ها هنا اليوم؟
إن الستين عاماً التي يعيشها المرء تقريبياً هنا تُنسف جميعها في اقل من لحظة، فلا
نوم، ولا طعام، ولا طفولة حمقاء ولا حتى ممتعة، لا دراسة، لا عمل، لا احلام، ولا حتى متسع للذكريات.

من يقرأ روايتك “أرض البرتقال الحزين” سيدرك أن التاريخ لم يتغير وأن الواقع لم يتحسن منذ آخر كلمة خطّتها يداك ودفعت روحك ثمناً لها، لا يزال هناك دماءً لا نهاية له ينزف في كل ساعة يا غسان، مايزال هناك مشاهدون صامتون في حضرة الفاجعة، وأيُ فاجعة، إنها الموت المتكرر، والاغتصاب العلني، والدمار الشامل، والتهجير القسري، فهل بوسع كاتبٍ يناصر أثر الذاكرة طيلة الوقت أن يصيغ عباراتٍ تُشفي بعض آلامها؟
قلت في روايتك، بأن الإنسان لا يمكنه ان يتحرر من ذاكرته امام هول المأساة، وان تلك الذاكرة هي ذاتها بوابة الاكتشاف لذاته. ولذا، فإننا لو فكرنا أن نكتب عن الذاكرة التي هي أكثر الأشياء النازفة اليوم فهل تعرف كم عامٍ سنحتاج حتى يتوقف النزيف وتبدأ رحلة الشفاء؟
ولأنك أكثر العارفين، فانت تدرك جيداً ان الذاكرة هي آخر الأشياء التي يمكنها ان تشفى، إن فعلت!

إن الحال الذي عاشه الفلسطينيون في ارض البرتقال الحزين، لا يختلف كثيراً عن ما يعيشه اليوم أهل أرض الرمال، فالدماء التي سالت لتروي مزارع البرتقال وتُثمر برتقالاً حزيناً مبلولاً بدماء الشهداء، لايزال شلالاً لا ينقطع حتى الآن بتّة، امتزجت به رمال غزة، وطحين الجائعين، وألعاب الحالمين، وذاكرة الباقين.

بعد اثنين وخمسين عاماً من استشهادك يا غسان، تخيل، لك أن تتخيل! أن كلماتك ماتزال تحكي عن ذات الواقع والأهوال، بل تخيل، أن جيلنا يشهَد على ما هو الأفظع، ويكتشف أن كل ما قرأه في زمنكم وأيام طنطورية وصبرا وشاتيلا لم يكن ماضٍ قاسٍ عبَرَ وانتهى، ولسنا محظوظين على الإطلاق لأن هذه الوقائع لم تحدث على أيامنا.
في المحصلة، لا تبتأس يا غسان، ولا تخف على هذه الأرض، بعد اثنين وخمسين عاماً من القهر والظلم والمعاناة لم تزل هي فلسطين التي كتبت عنها وأحببتها، أرض البرتقال، والرمال، والزيتون، والانبياء، والرباط، والاقصى.
وما كتبته طيلة حياتك، ستبقى أقلامنا حيّة لتتابع سرده، لكن النقطة الفاصلة اليوم، أننا متأكدون أنه لن يمر اثنين وخمسين عاماً آخرين، إلا وقد أُفلتت تلك الأقلام، ورُفعت الرايات.

بقلم: منى بشناق

الرابط المختصر:

مقالات ذات صلة