بين هيلين وآن الأمريكيتين ورهف الفلسطينية وليلى الإماراتية.. التاريخ يعيد نفسه
قصتان ملهمتان متشابهتان عن الإرادة والمثابرة والإنجاز بفارق 150 عاماً
أبوظبي- تخرج الطفلة الفلسطينية رهف ذات العشرة أعوام من غرفتها في مدينة الإمارات الإنسانية في أبوظبي في الصباح، لتمشي بحذر نحو الباحة التي يلعب فيها أقرانها من أطفال مثلها أتوا إلى العاصمة الإماراتية من غزة، بعد أن أصيبوا في الحرب المستعرة هناك منذ أشهر، ليتلقوا العلاج من جراحهم هنا ويتعافوا بأمان بعيداً عن ويلاتها.
تستحضر رهف في عقلها وحواسها؛ باستثناء البصر، الخارطة الذهنية التي درّبتها عليها معلمتها الإماراتية ليلي الشكيلي مراراً، وهي تضع يدها الحانية على كتفها، وتقودها بصوتها الهادئ كأم، عبر الممرات ثم الدرجات نزولاً ثم نحو الباحة المركزية المفتوحة، التي تلتقي فيها بأصدقاء جدد أتوا كذلك من غزة، تعرّفت عليهم تدريجياً، بعد أن بدأت بتقبّل واقع أنها أصبحت كفيفة.
حدث ذلك حين استيقظت رهف قبل أشهر على سرير مستشفى مكتظ بالمصابين في غزة، لتدرك أن الأهالي أسعفوها بعد قصف طال منزل أسرتها فدمره. حاولت حينها النظر من حولها، كي تعرف من هم أصحاب الأصوات الذين يحيطون بها، لتكتشف أنها فقدت بصرها وأمها وأباها وبيتها في القصف.
القائمون على المستشفى الإماراتي في غزة سارعوا لترشيحها لتكون ضمن قائمة الدفعة التالية من الأطفال الجرحى ومرضى السرطان الذين سيتم إجلاؤهم جواً من مدينة العريش المصرية بعد عبور معبر رفح، قبل تدمير جانبه الفلسطيني، إلى دولة الإمارات، ضمن مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة “حفظه الله”، لعلاج 1000 طفل من جرحى غزة و 1000 من مرضى السرطان فيها واستقبالهم في مدينة الإمارات الإنسانية في أبوظبي مع مرافقيهم لتلقي الرعاية الطبية العاجلة والماسّة التي يحتاجون إليها.
رهف، أثبتت مبكراً، ذكاءها المتقد وسرعة تعلمها، بعد أن بدأت المعلمة ليلى تذكيرها بالأحرف والأرقام من خلال استخدام المعجون لتشكيلها بيديها من وحي ذاكرتها، انتقلت معها بعد ذلك إلى تدريبها عبر ألعاب التركيب والتركيز على لغة برايل بالأحرف العربية والإنجليزية والأرقام لإعدادها لمرحلة قراءة الكتب المدرسية وغيرها بلغة برايل.
هذا التقدم القياسي أعاد لرهف ثقتها بنفسها، فقررت أن تشارك في مسرحية للأطفال تم تنظيمها في مدينة الإمارات الإنسانية بالتعاون مع مؤسسة الرعاية الأسرية، وأخذت فيها دور الراعية بعد أن حفظت النص الذي ألقته أمام جمهور المسرحية.
تقول رهف: “طموحي أن أصبح معلّمة وأن أحقق المزيد في المستقبل. والجوائز والتكريمات التي حصلت عليها تشجعني على أن أواصل تطوير قدراتي والتفوق في دراستي.”
المعلمة ليلي تقول بفرح إن المرحلة المقبلة مع رهف هي تعليمها الطباعة بلغة “برايل” على الآلة الكاتبة الخاصة من طراز “بيركنز” والتي تؤهّل الطفلة رهف لكتابة خواطرها والتعبير عن ذاتها وأفكارها وإبداعاتها على الورق.
وحين سؤالها عن كونها تشكّل مع رهف ثنائياً ملهماً، يشبه المعلّمة آن سوليفان التي درّبت قبل أكثر من 150 عاماً في الولايات المتحدة الأمريكية الطفلة الكفيفة هيلين كيلير على القراءة والتعلّم بلغة “برايل” حتى أصبحت كاتبةً لامعة وعضوة في الأكاديمية الأميريكية للفنون والآداب وناشطة اجتماعية حاصلة على وسام الحرية الرئاسي وقصة نجاح ملهمة لأصحاب الهمم والمكفوفين وطلبة المدارس في مختلف أنحاء أمريكا والعالم، تتجنّب المعلمة ليلى السؤال بتواضع جمّ، وتتحدث بشغف عن كتب جديدة تم تصميمها خصيصاً لطباعتها بلغة “برايل” لتمكين رهف وزملائها، من الطلبة المكفوفين القادمين من غزة إلى مدينة الإمارات الإنسانية، من الاندماج مع أقرانهم في الفصول المدرسية الاعتيادية واستعادة حياة أقرب إلى الطبيعية.
وتؤكد المعلمة الإماراتية ليلى الشكيلي التي تخرّجت في تخصص الرياضيات وتطوعت وتدربت لمدة عام ونصف على تعليم المكفوفين لغة برايل للأرقام والأحرف في مؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم في أبوظبي، وصممت مؤخراً كتابين للأرقام والأحرف بلغة برايل، أن الكفيف يركّز حواسه الأخرى وينمي قدراته بسرعة إذا ما توفر التدريب والتأهيل والرعاية والاهتمام والتحفيز والاحتفاء بالإنجازات.
ولدى تذكيرها بمسرحية “صانع المعجزات” التي كتبتها الكاتبة الأمريكية الكفيفة هيلين كيلير وأصبحت مادة رئيسية في المناهج المدرسية، تقول ليلى: “من له طموح سيصل. وأنا واثقة بقدرات رهف وكل طلابنا الذين يحولون التحديات إلى فرص. ونحن معهم في كل خطوة حتى تصبح لديهم الاستقلالية والثقة بالنفس والاعتماد على الذات.”
وتعمل الجهات والمؤسسات المختلفة في مدينة الإمارات الإنسانية في أبوظبي على توحيد الجهود والبرامج والمبادرات لتمكين الأطفال الذين تستقبلهم دولة الإمارات من قطاع غزة، من أجل توفير كافة أشكال الدعم المعنوي لهم وتمكينهم في رحلة الشفاء والتعافي واستئناف مسار حياتهم.