العمالة الفلسطينية في إسرائيل: تبعية مستمرة منذ 1967
فراس الطويل – آفاق البيئة والتنمية
منذ أن فرضت إسرائيل احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، دخل الاقتصاد الفلسطيني مرحلة جديدة عنوانها التبعية القسرية والحرمان الممنهج من مقومات التنمية المستقلة. فقد عملت سلطات الاحتلال على دمج هاتين المنطقتين في بنيتها الاقتصادية بطريقة أحادية الجانب، جعلتهما سوقاً للعمالة الرخيصة ومصدراً للموارد، وفي الوقت نفسه سوقاً استهلاكية لبضائعها، معزولة تماماً عن محيطها العربي الطبيعي.
وبالتوازي مع هذا الدمج القسري، انتهجت إسرائيل سياسات ممنهجة أفضت إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، لا سيما الزراعة والصناعة، لتغدو القدرة على توليد فرص عمل محلية مجزية محدودة إلى حد بعيد، وتزداد تبعية القوى العاملة الفلسطينية لسوق العمل الإسرائيلي عاماً بعد عام.
ورغم توقيع اتفاق أوسلو وما رافقه من بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، الذي كان يفترض أن يتيح للسلطة الفلسطينية بناء اقتصاد قادر على النهوض تدريجياً خلال فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، فالواقع أثبت عكس ذلك؛ إذ لم تلتزم إسرائيل ببنود الاتفاقيات، بل استمرت في السيطرة على المعابر الحدودية والموارد الطبيعية وحركة البضائع والأفراد، وحولت الاتفاق المؤقت إلى أداة لترسيخ التبعية وإبقاء الاقتصاد الفلسطيني رهينة لإرادتها السياسية والأمنية. ومع مرور الوقت تحولت الأراضي الفلسطينية إلى ما يشبه “الفناء الخلفي” للاقتصاد الإسرائيلي.
هيمنة متواصلة وتراجع القطاعات الإنتاجية
انعكست هذه السياسات على أداء الاقتصاد الفلسطيني بشكل مباشر، إذ شهدت القطاعات الإنتاجية التقليدية، وخاصة الزراعة والصناعة، تراجعاً حاداً خلال العقود الماضية. كانت الضفة الغربية وقطاع غزة قبل الاحتلال تعتمد بشكل واسع على الزراعة، إلا أن مصادرة الأراضي وشح المياه وسياسات الإغلاق المتكررة أدت إلى تقويض هذا القطاع الحيوي.
أما الصناعة، فقد عانت من القيود المفروضة على الاستيراد والتصدير، ومنع إدخال المواد الخام والمعدات، لتصبح عاجزة عن المنافسة أو التوسع. ونتيجة لذلك، باتت سوق العمل الفلسطينية عاجزة عن استيعاب القوى العاملة المتزايدة، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر بشكل متواصل.
وفي ظل هذا العجز البنيوي، وجد عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين أنفسهم مضطرين للبحث عن فرص عمل في إسرائيل؛ فشكلت العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، خلال العقود الثلاثة الأولى من الاحتلال، ما نسبته 20 إلى 30% من إجمالي القوى العاملة الفلسطينية.
صحيح أن هذه العمالة وفرت دخلاً للأسر الفلسطينية، لكنها كرست في الوقت نفسه اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على سوق العمل الإسرائيلي، وحوّلت جزءاً كبيراً من الدخل القومي إلى الاقتصاد المحتل.
فجوة الأجور وتعمق التفاوت المعيشي
ساهمت هذه التبعية في تعميق الفجوة المعيشية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فمتوسط الأجور في إسرائيل يزيد بأكثر من الضعف عن نظيره في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، رغم تقارب تكاليف المعيشة في الجانبين. ففي الضفة الغربية وقطاع غزة، يبلغ الحد الأدنى للأجر حوالي 530 دولاراً أميركياً، بينما تتجاوز الأجور في إسرائيل ثلاثة أضعاف هذا الرقم في وظائف مماثلة. ومع ذلك، يشير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن ثلث العاملين في القطاع الخاص الفلسطيني يتقاضون أجوراً تقل عن الحد الأدنى المعتمد محلياً، ما يعكس عمق الأزمة البنيوية في الاقتصاد الفلسطيني وقدرته المحدودة على تلبية احتياجات مواطنيه.
تبعية مشروطة بالتصاريح
لم تقتصر هيمنة إسرائيل على إضعاف القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، بل امتدت إلى التحكم الكامل في حركة العمالة ذاتها. فمنذ عام 1991، بات الحصول على تصريح عمل شرطاً أساسياً لدخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل. وتحدد سلطات الاحتلال شروط منح هذه التصاريح وفق اعتبارات سياسية وأمنية، وليس استناداً إلى حاجات الاقتصاد الفلسطيني.
حتى أيار/ مايو 2023، بلغ عدد التصاريح المخصصة لعمال الضفة الغربية في إسرائيل حوالي 80 ألفاً في قطاع البناء، و12 ألفاً في الصناعة والخدمات، و12.5 ألفاً في الزراعة، بالإضافة إلى 26 ألف تصريح تجاري يستخدم كثير منها للدخول بحثاً عن عمل.
لكن هذه الأرقام لا تعكس الواقع بالكامل، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 40 ألف عامل آخر دخلوا إلى إسرائيل قبل السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 عبر ثغرات في جدار الضم والتوسع، وبعلم جيش الاحتلال الذي يغض الطرف عن هذه الظاهرة ما دامت تخدم مصالحه الاقتصادية.
انهيار اقتصادي شامل
شكل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تشرين أول/ أكتوبر 2023 نقطة تحول مأساوية. فقد دُمّر القطاع بأكمله، وتوقف إنتاجه الاقتصادي الذي كان يمثل نحو 18% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني. وفي الضفة الغربية، فرض الاحتلال إغلاقاً شاملاً وأوقف جميع تصاريح العمل في إسرائيل، ما أدى إلى انضمام أكثر من 115 ألف عامل إلى طوابير البطالة. أعيد تفعيل جزء ضئيل من هذه التصاريح لاحقاً، حوالي 8,000 تصريح فقط، فيما بقي أكثر من 100 ألف عامل بلا مصدر دخل. ومع توقف تحويلاتهم، التي كانت تشكل نحو 17% من الدخل القومي الإجمالي الفلسطيني، دخلت آلاف الأسر في أزمة معيشية خانقة.
تقرير منظمة العمل الدولية في حزيران/ يونيو 2024 كشف عن حجم الكارثة: معدل البطالة في الضفة الغربية وصل إلى 32%، فيما انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 22.7%. وأفاد 51% من العاملين بتراجع ساعات عملهم، و63% بانخفاض أجورهم، بينما قلصت 65% من الشركات قوتها العاملة، سواء عبر التسريح أو الإجازات غير مدفوعة الأجر. أما الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين فقد قدّر خسائر الاقتصاد الفلسطيني جراء توقف العمالة في إسرائيل بما يزيد على 1.25 مليار شيكل شهرياً، وخسارة نحو 306 آلاف فرصة عمل منذ السابع من أكتوبر (2023).
تفاقمت الأزمة الاقتصادية بفعل اعتداءات المستوطنين على القرى الفلسطينية، وتقييد الحركة التجارية، إلى جانب استمرار إسرائيل في اقتطاع أموال المقاصة والضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية، والتي تمثل نحو ثلثي إيراداتها العامة. هذه الممارسات عمّقت حالة الركود، وأفقدت السلطة القدرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، بما فيها رواتب الموظفين والخدمات الأساسية.
أرقام حديثة من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني
- بلغ عدد العاطلين عن العمل في الضفة الغربية حوالي 287 ألف في الربع الثاني 2025 (بنسبة 28.6%)، مقارنة مع حوالي 300 ألف في الربع الأول 2025 (بنسبة 30.2%).
- بلغ عدد المشاركين في القوى العاملة في الضفة الغربية حوالي مليون في الربع الثاني 2025 مقارنة مع حوالي 993 في الربع الأول 2025. حيث بلغت نسبة المشاركة 45.4% في الربع الثاني 2025 مقارنة مع 45.2% في الربع الأول 2025.
- بلغت نسبة مشاركة الذكور في القوى العاملة في الضفة الغربية 72.0% في الربع الاول 2025 لتصل إلى 72.1% في الربع الثاني 2025، كما بلغت نسبة مشاركة الإناث 17.8% في الربع الثاني 2025 مقارنة مع 17.5% في الربع الاول 2025.
39 ألف عامل عدد العاملين في اسرائيل والمستعمرات الاسرائيلية في الربع الثاني 2025 - بلغ عدد العاملين من الضفة الغربية في اسرائيل والمستوطنات 39,100 عامل، حيث بلغ العدد الاجمالي للعاملين في اسرائيل 23,400 عامل في الربع الثاني 2025 مقارنة مع حوالي 25 ألف عامل في الربع الأول 2025؛ بينما بلغ عدد العاملين في المستعمرات الإسرائيلية 15,700 عامل مقارنة مع 15,300 عامل خلال نفس الفترة.
- بلغ معدل الأجر اليومي للعاملين في إسرائيل والمستعمرات 243.4 شيقلاً في الربع الثاني 2025 مقارنه مع 254.9 شيقلاً في الربع الأول 2025.
نحو استراتيجية للتحرر الاقتصادي
أمام هذا الواقع، يؤكد خبراء الاقتصاد الفلسطيني أن معالجة أزمة العمالة لا يمكن أن تتم بمعزل عن إصلاح هيكلي شامل للاقتصاد الفلسطيني وفك ارتباطه القسري بالاقتصاد الإسرائيلي.
ويقترح معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) جملة من الخطوات تبدأ بتوجيه الاستثمارات العامة والخاصة نحو تنشيط القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة والصناعة والإنشاءات، ووضع سياسات حماية للمنتجات المحلية، بما يتيح خلق فرص عمل جديدة ومستدامة. كما يدعو إلى تنظيم سوق العمل الفلسطيني في إسرائيل بشكل رسمي تحت إشراف وزارة العمل الفلسطينية، بما يضمن حقوق العمال ويحميهم من استغلال الوسطاء. ويشدد على ضرورة تدخل المجتمع الدولي والدول المانحة لإلزام إسرائيل بتوفير الحماية القانونية للعمال الفلسطينيين وتحويل مستحقاتهم كاملة وفق ما نص عليه بروتوكول باريس.
كشفت السنوات الأخيرة، وبشكل خاص منذ العدوان الإسرائيلي الأخير، حجم التشوه الذي أصاب الاقتصاد الفلسطيني نتيجة عقود من التبعية لسوق العمل الإسرائيلي. فهجرة الأيدي العاملة إلى إسرائيل، وترك الأرض والزراعة والصناعة، جردت الاقتصاد المحلي من قاعدته الإنتاجية، وحولته إلى اقتصاد هشّ يعتمد على تصاريح الاحتلال ورغباته الأمنية. ومع كل إغلاق أو قرار بوقف التصاريح، تنكشف هشاشة هذا البناء الذي فقد جذوره العميقة في الأرض.
النتائج التي نشهدها اليوم ليست سوى حصيلة طبيعية لسياسات ممنهجة دفعت الفلسطيني بعيداً عن أرضه ومصدر قوته الحقيقي. ومع استمرار المستوطنين في إحكام قبضتهم على الضفة، تصبح العودة إلى الأرض وإحياؤها شرطاً لا غنى عنه لأي محاولة لإنقاذ الاقتصاد الوطني. فلا تنمية مستدامة دون إنتاج محلي قوي، ولا استقلال اقتصادي دون أرض تُزرع وتُستثمر، ولا تحرر حقيقي دون استعادة السيادة على الموارد التي تشكل أساس بقاء هذا الشعب وصموده.
وحتى يتحقق ذلك، سيبقى الاقتصاد الفلسطيني، بما فيه سوق العمل، رهينة لسياسات الإفقار الإسرائيلية، وسيبقى العمال الفلسطينيون يواجهون معركة يومية من أجل البقاء.