في خطوة وُصفت بأنها “تسريع لافت” لمسار شرعنة البؤر الاستيطانية، أقرت سلطات الاحتلال في 12 ديسمبر/كانون الأول 2025، الاعتراف بالمزرعة الاستيطانية “هار بيزك” المقامة على أراضي بلدة رابا جنوب شرقي جنين.
وتحول الموقع من بؤرة رعوية إلى مستوطنة معترف بها رسميا في وقت قياسي في أقل من شهر، متجاوزا الإجراءات المعتادة التي تستغرق سنوات لاستكمال مسار التسوية.
وتستمد المستوطنة اسمها العبري من “خربة إبزيق” التابعة لمحافظة طوباس شمال شرقي الضفة الغربية، إلا أن رئيس مجلس قروي رابا، غسان بزور، يتمسك بالاسم الفلسطيني الأصلي للموقع وهو “جبل السالمة”، الذي يُعد أعلى قمة في المنطقة بارتفاع 713 مترا عن سطح البحر.
ويشرح بزور، الأهمية الإستراتيجية لهذا الموقع، “إن السيطرة على هذا الجبل تعني إحكام المراقبة على محيط واسع؛ إذ يطل غربا على مدن الساحل من نابلس حتى حيفا، وشرقا على الأغوار وجبال الأردن، ما يحوله من مجرد مزرعة استيطانية إلى نقطة تحكم إستراتيجية وسيطرة دائمة على الأرض وما حولها”.
غطاء عسكري
وعن التسلسل الزمني لهذا المخطط، يشير بزور إلى أن الهجمة بدأت فعليا في يونيو/حزيران الماضي، حين أصدر جيش الاحتلال أمرا عسكريا بوضع اليد على أراضٍ لشق طريق عسكري يمتد إلى أكثر من 10 كيلومترات، بدءا من قرية “المطلة” والجدار الفاصل شمالا، مرورا بالمناطق الشرقية لقرية رابا، وصولا إلى تخوم خربة “إبزيق” جنوبا (الخِربة قرية صغيرة).
ويضيف بزور “نحن أمام بؤرة استيطانية بغطاء عسكري، تشهد تواجدا مكثفا للمستوطنين وتتوسع يوميا، وتبعد مسافة لا تزيد عن كيلومتر ونصف الكيلومتر عن منازل المواطنين”.
وعلى مستوى البلدة، يؤكد رئيس المجلس القروي غسان أن إغلاق المراعي المفتوحة كبّد مربي المواشي -الذين يملكون أكثر من 2500 رأس غنم- خسائر فادحة بسبب اضطرارهم لشراء الأعلاف بتكاليف باهظة، بدلا من الرعي في أراضي البلدة.
زراعيا، يشير بزور إلى خسارة أكثر من 1500 دونم مزروعة بأشجار الزيتون المعمرة، حيث لم يتمكن الأهالي من جني ثمارها هذا الموسم إلا بنسبة ضئيلة بعد منحهم “تنسيقا” لدخولها لم تتجاوز الفترة المسموحة فيه 4 ساعات، إضافة إلى خسارة مساحات واسعة من المحاصيل البعلية كالقمح والبرسيم.
ويضرب بزور مثلا شخصيا بعائلته التي فقدت الوصول إلى نحو 100 دونم كانت تشكل مصدر دخل سنوي لها.
وألقى هذا الواقع الجديد بظلاله القاتمة على حياة الأهالي في رابا، وهو ما يسرده المواطن فضل نواجعة الذي أصبحت حياته وعائلته المكونة من 8 أفراد “جحيما” بسبب قربهم من البؤرة الاستيطانية.
يصف نواجعة موقعه الجغرافي بأنه “على خط التماس”، حيث يفصله عن المستوطنين متر واحد فقط، وقال “نتعرض لمضايقات يومية أشد من تلك التي يسببها الجيش؛ إذ يتواجد مستوطن يوميا ويقوم بأعمال مشينة تهدف إلى تهجيرنا”.
ويضيف بمرارة “منذ جاء المستوطنون إلى بلدتنا، ودعنا النوم نهائيا؛ بتنا نوزع الليل مناوبات، ينام بعضنا ليرتاح قليلا، بينما يبقى الآخرون مستيقظين، نحن في حالة استنفار وحراسة دائمة طوال الليل”.
ويشير نواجعة إلى غياب أي دعم فعلي على الأرض، رغم تقديم طلبات متكررة للمساعدة وتلقي وعود لم تُنفّذ حتى الآن، ويوضح أن محاولات اقتحام منزله بعد تدمير السياج القائم زادت من مخاوف العائلة، في ظل عدم توافر أي وسائل حماية.
وطالب بتوفير الحد الأدنى من الأمان بتركيب سياج يعيق أي اعتداء محتمل، مؤكدا أن غياب المتابعة الرسمية يترك الأهالي يواجهون هذا الوضع بمفردهم، دون أي حماية أو استجابة فعلية.
خسائر اقتصادية
ولم تقتصر المعاناة على الجانب الأمني فحسب، بل امتدت لتطال الاقتصاد المحلي للبلدة التي تعتمد أساسا على الثروة الحيوانية والزراعة، حيث فقد نواجعة منذ منتصف العام القدرة على الوصول إلى الأراضي التي كان يستأجرها في المنطقة الشرقية، بعد أن صادرت سلطات الاحتلال نحو 150 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) ومنعت الوصول إلى أكثر من 10 آلاف دونم صنفتها مناطق عازلة.
ونظرا لذلك، اقتصر ما تبقى له من أراضٍ على خمسة أو ستة دونمات حول منزله، ما اضطره إلى التخلي عن نصف قطيعه من الأغنام لعدم توافر المرعى الكافي.
وفي تحليله لهذا التسارع الاستيطاني، يوضح الباحث المختص في شؤون الاستيطان سهيل خليلية أن المخطط في جبل السالمة أو “هار بيزك” يهدد بعزل ما يزيد عن 2500 دونم من أراضي القرية سريعا.
وينبّه خليلية إلى أن القرارات العسكرية قد تنص رسميا على مصادرة مساحات محدودة (150 دونما مثلا) لصالح الطريق، لكنها تغفل ذكر المساحات الشاسعة خلفه التي تتحول تلقائيا إلى “مناطق معزولة” يُمنع الفلسطينيون من دخولها، وهي سياسة متبعة لقضم آلاف الدونمات.
ويرى خليلية أن السيطرة على “جبل السالمة” المشرف على المنطقة تتماشى مع العقيدة العسكرية الإسرائيلية للسيطرة على القمم لتوفير الحماية للمستوطنات.
ويعزو الباحث السرعة القياسية في الاعتراف بـ “هار بيزك” إلى التغييرات الهيكلية التي أحدثها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قائلا “تم تغيير القوانين لاختصار الإجراءات المعقدة، واستغلال مشاريع تسوية الأراضي لتسجيلها بأسماء مستوطنين بسرعة، دون الحاجة لموافقة وزير الجيش كما كان سابقا”.
ويشير خليلية إلى أن تسريع شرعنة البؤر يرتبط مباشرة بآليات التمويل، موضحا أن سموتريتش يدفع إلى ضخ سريع للميزانيات المخصصة للبنى التحتية، فور استيفاء البؤرة لشروط معينة، أبرزها توسيع مساحتها وتحويل الأراضي المستولى عليها إلى “أراضي دولة”. وبذلك تُعدّ مخططات هيكلية وتُصرف الميزانيات فورًا، في تجاوز للإجراءات المعتادة، بهدف تكريس وقائع دائمة على الأرض.
ويختتم خليلية حديثه بوضع ما يجري في رابا ضمن المشهد الأوسع، مؤكدا أن هذه الحكومة “الاستيطانية بامتياز” تسابق الزمن لزرع “أوتاد” تمنع أي تراجع مستقبلي، قبل موعد الانتخابات القادمة، لاستغلال هذه “الفرصة التي لا تعوض” في ظل وجود ائتلاف يميني داعم، حيث صارت مساحة البؤر تفوق مساحة المستوطنات القائمة بأربعة أضعاف.
ويؤكد أن الهدف النهائي هو تشكيل حاجز جغرافي متصل (من الشمال إلى الجنوب) يُحكم السيطرة على “الحدود الغربية للأغوار” شرقي الضفة الغربية، مما يؤدي فعلا إلى عزلها وفصلها كليا عن باقي المحافظات الفلسطينية.

