لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

“الجميع غير مستعد للحرب”.. تقييم عسكري يكشف ترهل الدفاع الأوروبي



خلص اجتماع لكبار خبراء الدفاع في لندن مؤخرا، وخُصص لتقييم مدى جاهزية بريطانيا وحلفائها لاحتمال اندلاع حرب خلال السنوات القليلة المقبلة، إلى نتيجة صادمة: الجميع غير مستعد.

وخلف هذا الحكم القاسي تقف أرقام مرعبة تكشف حجم الإهمال الأوروبي لقطاع الدفاع على مدى عقدين من الزمن. فلو أنفقت جميع دول الاتحاد الأوروبي 2% فقط من ناتجها المحلي على الدفاع – وهو المعيار الأدنى الذي حدده حلف الناتو – خلال الفترة من 2006 إلى 2020، لكان ذلك يعني 1.1 تريليون يورو إضافية، وهو مبلغ يتجاوز الميزانية الدفاعية السنوية الأمريكية بأكملها، وفقًا لمؤسسة “غولدمان ساكس” المالية.

فجوات هائلة
لكن عقودًا من التقشف الدفاعي بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم موجة جديدة من التخفيضات عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، خلقت فجوات هائلة قدّرها مفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس في مارس 2025 بنحو “500 مليار يورو على الأقل”، واصفًا إياها بأنها “هائلة”.

الورقة البيضاء التي أصدرتها المفوضية الأوروبية تحت عنوان “الجاهزية 2030” حدّدت بدقة تسعة مجالات حرجة تحتاج إلى معالجة عاجلة، هي: الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، الممكنات الاستراتيجية من نقل جوي وتزوّد جوي ومراقبة بحرية، شبكة نقل عسكري لتحريك القوات سريعًا عبر القارة، أنظمة المدفعية والصواريخ بعيدة المدى، الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية، مخزونات الصواريخ والذخيرة شبه الفارغة، الطائرات المسيّرة ومضاداتها، قدرات القتال الأرضي من دبابات ومدرعات، والقدرات البحرية لحماية الممرات الحيوية.


مبادرات طموحة وأربعة محاور
واستجابة لهذا الواقع المقلق وللتهديد الروسي المتصاعد، أطلقت أوروبا مبادرات طموحة تحت عنوان “إعادة تسليح أوروبا / الجاهزية 2030″، تستهدف تعبئة 800 مليار يورو بحلول نهاية العقد.

تتوزع هذه الأموال على أربعة محاور: 150 مليار يورو قروضًا عبر آلية الأمن الأوروبي التي استنفدتها 19 دولة بالكامل، و650 مليار يورو عبر تفعيل بند الهروب الوطني من قواعد الاستقرار المالي، و1.5 مليار يورو لبرنامج الصناعات الدفاعية الأوروبية، و8.8 مليار يورو لصندوق الدفاع الأوروبي للبحث والتطوير.

وقد بدأت الأرقام بالفعل في التحرك بشكل ملحوظ. فقد قفز الإنفاق الدفاعي الأوروبي من 218 مليار يورو في عام 2021 إلى 326 مليار يورو في 2024، بزيادة حقيقية بلغت 30%، وفق البرلمان الأوروبي.

كما وصلت الاستثمارات الدفاعية إلى مستويات قياسية، إذ بلغت 106 مليارات يورو في عام 2024، بزيادة قدرها 42% عن العام السابق، ومن المتوقع أن تقفز إلى 130 مليار يورو في عام 2025.

وفي قمة حلف الناتو التي عُقدت في لاهاي في يونيو 2025، التزمت 31 دولة – باستثناء إسبانيا – بالإنفاق الدفاعي بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، موزعة إلى 3.5% للدفاع الأساسي و1.5% للأمن والبنية التحتية، كما نقلت مجلة “بريكنغ ديفنس” الأمريكية المتخصصة.

شكوك وتحديات
لكن رغم هذه الأرقام المثيرة للإعجاب على الورق، يبقى الخبراء متشككين بعمق في قدرة أوروبا على ترجمة الخطط إلى واقع قبل فوات الأوان. وقد عبّر جاك واتلينغ، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة البريطاني، عن هذا الشك بوضوح.

وقال لشبكة “سي إن إن”: “هناك خطة بأرقام كبيرة، لكن الحكومات لا تتخذ الخطوات الضرورية لتنفيذها. نحن ما زلنا نخطط بناءً على أشياء غير موجودة”. وتتجلى هذه الفجوة بين الحلم والواقع في ثلاثة تحديات كبرى تواجه المشروع الدفاعي الأوروبي الطموح.
التحدي الأول هو الوقت – أو بالأحرى انعدامه. فقد وجد باحثو مركز بلفر في جامعة هارفارد الأمريكية أن أكثر السنوات المذكورة لاحتمال شن هجوم روسي على حلف الناتو هي 2027 و2028، وهو ما يعني أن لدى أوروبا أقل من ثلاث سنوات للاستعداد.

غير أن تطوير قدرات دفاعية متقدمة يحتاج إلى سنوات طويلة من الاستثمار المستمر والبناء الصناعي المعقد، كما أشارت “غولدمان ساكس”، وقد تتباطأ هذه العملية أكثر بسبب الحواجز التنظيمية والبيروقراطية داخل كل دولة وبين الدول الأوروبية.

التحدي الثاني يتمثل في التجزئة والازدواجية المكلفة التي تعاني منها الصناعات الدفاعية الأوروبية. فأوروبا تنتج حاليًّا 3 أنواع مختلفة من المقاتلات القتالية: “يوروفايتر تايفون” بعدد 782 طائرة، و”رافال” الفرنسية بعدد 710 طائرات، و”غريبن” السويدية بعدد 369 طائرة، وفق مرصد الاقتصاد البريطاني.

ولو اتفقت الدول الأوروبية على تصنيع نوع واحد فقط، لكان الإنتاج الإجمالي نحو 1800 طائرة، مع توفير في التكاليف يتراوح بين 10% و20%. في المقابل، خُطّط لإنتاج 3556 طائرة من المقاتلة الأمريكية “إف-35″، أي ما يقارب ضعف ما تنتجه أوروبا مجتمعة، وهو ما يمنح الصناعة الأمريكية وفورات حجم هائلة.

والأسوأ من ذلك أن برنامج “FCAS” – المقاتلة الفرنسية-الألمانية-الإسبانية من الجيل السادس – يعاني صعوبات جدية بسبب صراع النفوذ بين شركتي “داسو” الفرنسية و”إيرباص” الأوروبية، كما كشفت مجلة “بريكنغ ديفنس”. وتتكرر المشكلة نفسها مع برنامج “تمبست” البريطاني، وهو مشروع لتطوير مقاتلة من الجيل السادس.

ويحذر مركز الإصلاح الأوروبي من أن “التحدي الحقيقي هو ضمان مواءمة كل هذه المبادرات لتفادي الازدواجية وتعظيم الكفاءة”.

أما التحدي الثالث فهو الاعتماد المتجذّر على الدعم الأمريكي. فحاليًّا، تشكل الولايات المتحدة “الممكّن الحاسم” للعمليات العسكرية الأوروبية، إذ توفر طائرات النقل الثقيلة، والطائرات المسيّرة المتقدمة، وأنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والقيادة والسيطرة، والضربات بعيدة المدى، والتزوّد الجوي، ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة، كما أفاد موقع “ديفنس سيكيورتي مونيتور”.

وكتب أحد محللي الموقع أن “حجم ما هو مطلوب لاستبدال الدعم الأمريكي سريعًا يمثل قفزة هائلة”، ولا سيما أن التقنيات المتقدمة “متوافرة بسهولة أكبر في السوق الأمريكية مقارنة بأوروبا”.
وتتفاقم المشكلة مع اشتراط آلية التمويل الأوروبية “SAFE” أن يكون 65% من المحتوى من منطقة اليورو، ما يعني أن على الشركات الأوروبية رفع الإنتاج إلى “مستويات غير مسبوقة”، وهو هدف بالغ الطموح.

المشكلة في الفعل لا في التحليلات
الجنرال ريتشارد بارونز، الرئيس السابق للقيادة المشتركة البريطانية، لخّص المشكلة بوضوح خلال مؤتمر المعهد الملكي للخدمات المتحدة في نوفمبر الماضي، قائلًا: “بصراحة، لا نحتاج إلى مزيد من التحليل ليخبرنا بما يجب فعله. المشكلة الحقيقية أننا نحتاج فعلًا إلى أن نفعله”.

وأشار الجنرال إلى أن “المجتمع المدني والسياسيين” لديهم اهتمامات أخرى تصرف انتباههم عن أولوية الدفاع.

ويطرح مركز “بروغل” الأوروبي خطرًا إضافيًّا، إذ يحذر من أن “السماح لدول الاتحاد الأوروبي بالإنفاق أكثر عبر تخفيف القواعد المالية دون إنشاء آليات تمويل مشترك” قد يؤدي إلى تصاعد “القومية في الشراء داخل الاتحاد”. وبعبارة أخرى، “ما لم يتم تجميع المشتريات وتقليل التجزئة، فإن الطلب الإضافي على السلع الدفاعية سيدفع الأسعار إلى الارتفاع أساسًا”، ما يعني إهدار المليارات دون تحسن حقيقي في القدرات.

دان دارلينغ، من مركز “فوركاست إنترناشيونال” الأمريكي، يطرح سؤالًا أكثر إيلامًا: “هل ستبقى الشعوب الأوروبية متحمسة لتحمل ديون أكبر من أجل الدفاع، خاصة في سيناريو توقف صراع أوكرانيا؟”. ويضيف بواقعية قاسية: “كلما ابتعدت عن حدود روسيا، قلّ تأثير بوتين في الإدراك العام بوصفه تهديدًا وجوديًّا مستمرًّا”. وهذا يعني أن الزخم السياسي للإنفاق الدفاعي قد يتبخر سريعًا إذا هدأ الوضع الأمني مؤقتًا.

بصيص أمل
من جهته، يرى سام غرين، أستاذ السياسة الروسية في جامعة كينغز كوليدج لندن، بصيص أمل، لكنه حذر.

وقال لشبكة “سي إن إن”: “أعتقد أن هناك مؤشرًا على أن المجتمعات الأوروبية مستعدة لهذه المحادثة حول زيادة الإنفاق الدفاعي، لكن الحكومات ما زالت غير واثقة بما يكفي لإجرائها بصراحة مع شعوبها”.

البرامج طموحة، والأموال- على الأقل على الورق- متاحة. لكن كما لخّصت “غولدمان ساكس” الأمر بكلمات مقتضبة: “إحياء صناعة الدفاع الأوروبية قد يستغرق سنوات عديدة- وقت قد لا تملكه أوروبا”.
السؤال اليوم لم يعد ما إذا كان بإمكان أوروبا سدّ الفجوات الدفاعية الهائلة، بل ما إذا كانت ستفعل ذلك بالسرعة الكافية. فالساعة تدق بلا رحمة، والخبراء يحذرون من أن عامي 2027 و2028 قد يكونان نقطة الحقيقة؛ اللحظة التي ستُختبر فيها جدية أوروبا في الدفاع عن نفسها.

الرابط المختصر:

مقالات ذات صلة