الاقتلاع الصامت والتهجير الممنهج
د. خالد بارود
منذ اللحظة الأولى لنشوء المشروع الصهيوني، لم تكن الفكرة مجرد استعمار عسكري أو توسع استيطاني تقليدي، بل كانت عملية إحلال مدروسة وممنهجة، تستند إلى اقتلاع السكان العرب الفلسطينيين الأصليين وإحلال مهاجرين غرباء مكانهم، وقد ظلت هذه السياسة ركيزة مركزية في المخطط الصهيوني، تتخذ في كل مرحلة شكلاً جديداً، يتماشى مع متطلبات الزمن، ويخدع الرأي العام العالمي بشعارات الديمقراطية والحق التاريخي وعودة المنفيين وأرض الميعاد إلى غير ذلك من المفاهيم التي تم تسويقها ونشرها وأصبحت مع الأسف جزءا من ذاكرة الثقافة الغربية ووصل الامر ان بعض العرب والمسلمين يرددونها في حين يشاهد العالم تهجير غزة كأنه نكبة معاصرة مكتفية بذاتها، فإن الحقيقة الأوسع تؤكد أن ما يحدث هناك ليس سوى صورة صاخبة لما يجري في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل بصورة أبطأ وأكثر خفاءً، لكنها لا تقل بشاعة.
ومنذ وعد بلفور وحتى الإعلان عن قيام إسرائيل، كان الهدف المعلن هو إقامة دولة يهودية في أرض مأهولة بشعب حي، وكان لا بد من التخلص من هذا الشعب، ولذلك تم التهجير الأول بالقوة المباشرة، عبر المجازر والقتل والحصار، فكانت نكبة 1948، التي اقتلع فيها أكثر من 900 ألف فلسطيني، وهُدمت أكثر من 500 قرية، ولكن مع تثبيت الكيان اليهودي، تحوّلت أدوات التهجير من البندقية والرصاص إلى التخطيط الاستراتيجي، فأصبحت عملية تراكمية، تستهدف الأرض والهوية والاقتصاد والمجتمع واستخدام كل الوسائل التي تجعل الفلسطيني يائساً بوجوده على هذه الأرض.
وما يجري في غزة ليس حرباً عسكرية فقط، بل هو تنفيذ حرفي لسياسة الهندسة الديموغرافية، فالتطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يتعرض لها القطاع منذ السابع من أكتوبر ليست هدفاً نهائياً بحد ذاتها، بل أداة لخلق حالة من اليأس وجعلها بيئة طاردة تُجبر الفلسطيني على الرحيل، ومنها القصف العشوائي، واستهداف المدارس والمستشفيات، وتدمير البنية التحتية، ومنع دخول الغذاء والدواء، كلها وسائل لإجبار الناس على مغادرة غزة، والحديث عن الانتقال إلى رفح، ثم الحديث عن خروج مؤقت إلى سيناء، ليس مجرد ضغوط عسكرية، بل هو تنفيذا لمشروع تهجير جماعي جديد قديم، بغطاء إنساني كاذب.
أما في القدس لا يُستخدم القنابل كما يفعل في غزة بقدر ما يستخدم القوة الناعمة كأوراق المحاكم، والقرارات الإدارية، والقوانين المصممة خصيصا لإحلال المستوطنين مكان الفلسطينيين مثل “قانون أملاك الغائبين”، و”قانون التنظيم والبناء”، و”منع الترخيص”، إلخ.. كلها أدوات قانونية ظاهرها الشرعية القانونية وباطنها الطرد والتهجير حيث يتم تهجير العائلات فرداً فرداً، وبيتاً بيتاً، كما حدث في الشيخ جراح وسلوان وغيرها، ثم يجري تقديم ذلك كمسألة قضائية داخلية لا شأن للعالم بها، إنه تهجير تدريجي وتراكمي، لكنه لا يقل عنفاً وألما.
أما في الضفة الغربية، تتجلى عبقرية الاحتلال في ممارسة التهجير باستخدام القوة والعدوان المتواصل بسرقة الأرض حيث المستوطنات تُبنى على الجبال العالية، والطرق الالتفافية تشق الأرض وتعزل القرى، وجدار الفصل يبتلع الأراضي، ونقاط التفتيش والحواجز تقطع التواصل الاجتماعي والاقتصادي، والمناطق المصنفة (C) تُحرم من التنمية عمداً، ومنع استخدامها نهائيا، وفي الأغوار يجري التهجير عبر طرد المزارعين من أراضيهم بحجج بيئية أو عسكرية وأمنية في جنوب الخليل، فيجري اقتلاع القرى بالكامل كما في مسافر يطا، والتهجير يتم على جرعات، بحيث يبدو كل إجراء صغيراً، لكن محصلته النهائية هي تفريغ الجغرافيا من الفلسطينيين.
أما في النقب وبعض مدن الداخل تهدم إسرائيل سنوياً آلاف البيوت بحجة عدم الترخيص، رغم أن القرى البدوية غير المعترف بها محرومة من أبسط حقوق التخطيط، وأما في المدن المختلطة، فتستخدم الجمعيات الاستيطانية أدوات السوق لشراء العقارات، وطرد السكان العرب الفلسطينيين بشكل تدريجي، ولا يستخدم الاحتلال سياسة الطرد المباشر، بل يعتمد على تهميش تدريجي يجعل البقاء صعباً، فيختار الفلسطيني الرحيل مرغماً، ليبدو الأمر وكأنه خيار شخصي هدفه التهجير الطوعي.
ولا يقتصر التهجير على الجغرافيا فقط، بل يمتد إلى الذاكرة والهوية كتشويه المناهج التعليمية، ومنع الرواية الفلسطينية، وأسرلة الفضاء الإعلامي، وكلها سياسات هدفها اقتلاع الفلسطيني من ذاته وإلغاء شخصيته الفلسطينية، وتحويله إلى رقم هش في منظومة السيطرة، فمثلا حين يُجبر الطفل المقدسي على تعلم تاريخ الدولة العبرية، أو حين يُمنع اسم قريته المهجرة من كتب الجغرافيا، وسرقة وتزوير كل ثقافة وتراث فلسطيني حتى وصل الأمر لسرقة الاكلات الفلسطينية والفلافل والحمص والمقلوبة واستخدام الثوب الفلسطيني وعرضه في مشاركات دولية كتراث اسرائيلي فإن هذا شكل آخر من التهجير هدفه طمس الوعي وطمس الهوية.
الفلسطيني منذ بداية الاحتلال ولا زال يتحمل الألم ولديه أمل بإصراره التاريخي على البقاء على هذه الأرض وأصبح البقاء والصمود بالنسبة للفلسطيني مقاومة، والتعليم مقاومة، والزراعة مقاومة، والتشبث بالمفتاح القديم مقاومة، ولبس الكوفية والثوب الفلسطيني والدبكة الفلسطينية مقاومة وكما فشل الاحتلال في طمس الرواية منذ النكبة، سيفشل أيضاً في تحويل غزة إلى صحراء خالية، أو القدس إلى متحف، أو النقب إلى امتداد استيطاني، لأن التهجير، وإن كان سياسة دائمة، إلا أن الإرادة الفلسطينية أقوى من محوه لشعب متجذر في أرضه وقابضاً على أمل لا ينكسر.
ولكن إلى متى سيبقى هذا العالم صامتا ويُغضّ الطرف عن الجلاد، ويُبرَّر القتل، ويُشرعن الظلم باسم حق الدفاع عن النفس؟ لقد أصبح الصمت العالمي شريكا في الجريمة وتواطؤا أحيانا، وجبنا أحيانا أخرى وهو موقف منحاز للمحتل، قاتل للضحية مرتين مرة بالسلاح، ومرة بإنكار العدالة.