لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

القصّة الكاملة لاغتيال محمود المبحوح



سميدار بيري لم يكن لـ “ابو العبد” ــ وكان هذا هو الاسم الحركي لمحمود المبحوح ــ أي احتمال للهرب من مصيره. قالت امه فاطمة، “علمت منذ سنين كثيرة انهم سينجحون في تصفيته آخر الامر. حاولوا وحاولوا الى ان وجدوه”.

فصل المبحوح نفسه المحاولات الاسرائيلية لتصفيته في مقابلة نادرة منحها “الجزيرة” . تمت المقابلة ــ وكان مطموس الوجه بالتصوير ورأسه مغطى بقماش ــ قبل عشرة أشهر، لكنها بثت في الاسبوع الماضي فقط عندما أدركوا في الشبكة عظم المواد الموجودة لديهم. “حاولوا ضربي ثلاث مرات وكادوا ينجحون”، قال المبحوح. “مرة في دبي، ومرة في لبنان قبل نصف سنة، ومرة ثالثة في سورية بعد شهرين من تصفية عماد مغنية. هذا هو الثمن الذي كتب على كل من يحارب الاسرائيليين”.
“وصلوا اليه مرة واحدة، وحاولوا مرتين، وصفوا الحساب الآن”، يقول خبير أجنبي بالأمن، يتابع المطاردة الطويلة التي استمرت 20 سنة. “أغلق الشرك منذ زمن حول المبحوح وكان الأمر أمر الفرصة فقط. لا احتمال لمن تطارده اجهزة دولة وتعلمه. انتصرت آخر الامر التكنولوجيا المحكمة”.
على حسب قول ذلك الخبير، حتى لو كان المبحوح حط في امارة دبي قبل ثلاثة اسابيع مع حزام من الحراس كانوا سيصلون اليه. “كانت العملية اكثر تعقيداً بقليل بالنسبة اليهم، لكن الذين صفوه لحظوا اللحظة وضربوه بحسب الخطة”.
بروس ريدل، الذي عمل 29 سنة في وكالة الاستخبارات الاميركية، أوصى هذا الاسبوع، في مقابلة مع الصحيفة الاميركية “فينيشن”، بالانتباه الى وحدة “كيدون” في الموساد الاسرائيلي. “انهم مهنيون جداً، وشبان، ومصممون، وذوو قدرة رياضية مذهلة. لهم سجل مذهل من النجاح. لم يكشف الى اليوم عن الكثير جداً من التصفيات الغامضة التي وقعت كيدون عليها”.
“سياح” يختفون
ان المبحوح، الذي كان يفترض ان يحتفل في يوم الاحد بيوم ميلاده الخمسين، استقل رحلة “الخطوط الجوية الاماراتية” في دمشق في العاشرة والربع صباحاً في 19 كانون الثاني. حط بعد خمس ساعات في دبي. وصل وحده، مع جواز سفر عراقي مزيف. أبقى من اسمه الاصلي الاسم الخاص عبد الرؤوف فقط.
في المطار لاحقته ثلاثة أزواج من العيون: ممثل حركة حماس، الذي أتى للتحقق من أن إجراءات دخول مسؤول المنظمة الكبير تتم بلا خلل واعتنى له بحجز الغرفة في فندق بستان روتانا، على مبعدة دقائق معدودة من السفر عن المطار. علم المبحوح، الذي كان يحمل حقيبة سفر خفيفة، سلفاً الى أين يجب ان يصل. لكنه ليس وحده من علم. لم يقترب منه ممثل “حماس” واكتفى الاثنان بالنظرات.
وكان هنالك زوجان آخران من العيون من خلية المغتالين. لقد انتظرا هما ايضاً المبحوح. وعندما تعرفاه، بدأت العملية التي ترمي الى الانتهاء سريعاً جداً بغير ترك أثر في الميدان.
استقل المبحوح وحده سيارة أجرة، على أنه رجل أعمال عربي وسافر الى الفندق. في زيارتين سابقتين لدبي اهتم ان ينشر عن نفسه أنه مستورد نسيج. كانت هذه قصة التغطية على لقاءاته مع مصدري السلاح الايرانيين. سجل اسمه عند موظف الاستقبال في فندق بستان روتانا واخذ مفتاح الغرفة 130، أصر الذين حجزوا له الغرفة على الطابق الارضي، كي لا يضطر الى استعمال المصعد او الدرج. بعد ان تم الكشف عن جثته، باع عزت الرشق من قيادة “حماس” في دمشق وسائل الاعلام قصة غير مقنعة هي ان المبحوح اضطر الى التخلي عن خلية حراس لأنه لم توجد اماكن خالية في الطائرة. يبين الخبير الامني الاجنبي: “كما احلل الحادثة، أتى المبحوح وحده كي لا يثير انتباه أحد. علم أنه يوجد رجال ميدان من “حماس” يهتمون به”.
دخل المبحوح الغرفة 130، استحم وغيّر ملابسه. بعد ساعة ترك الفندق في طريقه الى لقاء. لم يسافر هذه المرة في سيارة أجرة. فقد انتظره شخص ما داخل سيارة عند مدخل الفندق. لم يأكل المبحوح في اثناء الرحلة من دمشق ولم يستدع خدمة الغرف في الفندق. كان على ثقة حتى اغتياله بأنه سيوجد من يحاول تسليمه في كل لحظة. “عندي غرائز سليمة”، تمدح في المقابلة النادرة مع الجزيرة. “أعلم انه يجب الحرص طول الوقت. الحمد لله أنا أعرف الحذر”.
تابعته عيون مغتاليه منذ الخامسة بعد الظهر الى ان عاد الى فندق روتانا في حوالي التاسعة مساء. احتاج رئيس فريق تحقيق دبي، الكولونيل ضاحي حلفان، الى تسعة أيام ليخلص الى استنتاج ان خلية الاغتيال كان عددها سبعة: ستة رجال وامرأة واحدة، استعمل أربعة منهم جوازات سفر ايرلندية. كيف علم ان الحديث عن سبعة على التخصيص؟ اضطر حلفان الى إشراك نظرائه في الامارات المجاورة ليفحص من هم “السياح” الذين دخلوا ولم يتم تسجيل خروجهم.
يعرض مسؤول الـ “سي اي ايه” الرفيع، بروس ريدل توزيع المهام بين أعضاء خلية كيدون: نفذ اثنان الاغتيال، واثنان للحراسة، وامرأة لـ “التليين”، وسائق آمر، اعد مسار هرب بديلاً في حالة خلل في تنفيذ الخطة الاصلية. وكان عنده ايضا الورقة. “من المحتمل افتراض انه كان يوجد مشاركون خفيون آخرون لم يلحظهم أحد ولم يتعرفهم الى اليوم”، يشهد الخبير الامني الاجنبي. “ان عملية في حجم كهذا تحتاج الى اكثر من سبعة اشخاص في الميدان”.
أخذ جميع عمال فندق بستان روتانا الى تحقيق كثيف في شرطة دبي. طلب المحققون ان يتحققوا هل كانت احدى موظفات الاستقبال مزروعة وهي التي زودت المغتالين بنسخة مفتاح دخول غرفة المبحوح. يشتبه المحققون في ان اكثر من امرأة واحدة شاركت في القضية.
يسهم الخبير الامني القديم من تجربته المتراكمة لدحض التهم في وسائل الاعلام العربية، وكأن جهاز استخبارات من دول اخرى جند للعملية. “كما في اغتيال عماد مغنية قبل سنتين، وكما في محاولة اغتيال خالد مشعل وفي قضايا اخرى لم يكشف عنها النقاب بعد، يتم كل شيء على طهارة الاسرائيليين. عندما يخرجون في عملية اغتيال، لا يعرض الاسرائيليون حياة رجالهم للخطر، انهم لا يعتمدون على أي احد”.
عندما عاد الى غرفته في الفندق، استلقى المبحوح في السرير وفتح التلفاز. برغم الستائر المنزلة، رصدت عيون خفية حركاته. فتح الباب من الفور بمفتاح نسخ سلفاً. انقض واحد على المبحوح وحرس آخر. الصق جهاز كهربائي بأذنه. تبينت على رجليه علامات الصراع الاخير عن حياته. ارسلت عينات من دمه بعد ذلك الى مختبر شرطي في فرنسا، لفحص هل حاولوا ان يدخلوا في جسمه سموماً قاتلة.
الخبير الامني الاجنبي مستعد للقسم بأن خلية الاغتيال لم تجهد نفسها في التحقيق مع المبحوح. “ليس هذا هو الاسلوب ولا المهمة التي فرضت عليهم. ما الذي يجب ان يحققوا فيه معه؟ لقد كشفته المطاردة المستمرة له. كان مكشوفاً، علموا بالضبط ما الذي يفعله ولماذا أتى دبي. أخمن أن الاعدادات للعملية استمرت سنة على الاقل وكان متابعاً طول الوقت. وافترض ايضاً ان قائد العملية اصدر امراً بضربه في أسرع وقت ممكن والانصراف. في الاكثر، اذا كان المبحوح يملك حاسوباً منقولاً، اهتموا بافراغه وبأخذ المواد. العمل في الحصيلة العامة هادئ ونقي. اغتيال كامل”.
أثارت العملية ايضا انطباعاً في حلفان. “كان هذا عمل مختصين”، أبلغ. اليوم ايضاً، بعد ثلاثة اسابيع من الاغتيال، لا يتهم اسرائيل مباشرة. اعترف بضغط وسائل الاعلام بأنه لا يخرج من حيز الامكان” مشاركة الموساد. اشار الكولونيل حلفان الى طرف خيط: “ترك المغتالون وراءهم علامة ما في الميدان، تقودنا الى استنتاجات عن هويتهم”.
يلاحظ الخبير الامني الاجنبي بسخرية: “في داخل طريق يعمل بحسب خطة، أخذ آخر تفصيلاتها في الحساب، يوجد شخص مهمته جمع وتنظيف العلامات الدامغة. اذا نجحوا مع ذلك كله في ان يجدوا علامة ما، فهذا يعني ان المغتالين غرسوها على عمد من أجل تضليل المحققين”.
كمين، وقتل، وهرب
ولد محمود عبدالرؤوف في مخيم اللاجئين جباليا في غزة. “ساد البيت جو إسلامي، وحرصت منذ سن مبكرة على الصلاة في المسجد”، قال في المقابلة مع “الجزيرة”. في حوالي سن العشرين انضم الى “مجموعة محلية” كما عرفها. “بدأنا البحث عن سلاح لمقاومة الاسرائيليين وحصلنا عليه من مصر”، قال.
في 1986 اعتقلوه لأول مرة لحيازته بندقية كلاشينكوف. “كانت التحقيقات صعبة قاسية. كان ستيف، المحقق الاسرائيلي في سجن عسقلان، عنيفاً جداً بحيث كان يغمى علي في التحقيق”، قال في المقابلة. “ذات مرة، في اثناء التحقيق بدأت أردد الشهادة، وذهل ستيف. سمعته يقول بالعبرية: سيموت هذا الرجل من الفور بين أيدينا ولست مستعداً لذلك. وعندها كفوا عن تعذيبي وأرسلوا بي الى سجن غزة. هكذا فزت بحياتي والحمد لله. لم أنكسر ولم أعترف ولم اكشف أسراراً”.
انضم المبحوح عندما اطلق بعد ستة وأربعين يوماً الى “مجموعة” بقيادة صلاح شحادة، قائد كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لـ “حماس”. “أعطى الشيخ صلاح أمراً باختطاف وقتل جنود اسرائيليين. بحثنا عن قطعة أرض صغيرة بعيدة، حفرنا بئراً معدة لتستعمل موقع سجن سرياً للجنود الاسرائيليين الذين سنخطفهم امواتاً او احياء”، قال واكد: “كما في حالة شليت بالضبط”.
في 16/2/1989 خرج المبحوح مع شريكه ابي صهيب في عملية انتهت الى اختطاف وقتل الجندي الاسرائيلي آفي سسبورتس. في المقابلة مع “الجزيرة” يعرض لاول مرة روايته لعملية القتل.
“ارتدينا ملابس متدينين يهود، سافرنا في سيارة وانتظرنا عند مفرق ليصلوا ويطلبوا نقلية. حملنا في مقعد السيارة الخلفي صناديق كبيرة. كنت أنا السائق. دخل سسبورتس السيارة ولم يرتب بأي شيء. جلس في الخلف. حددت سلفاً علامة متفقاً عليها مع أبي صهيب. بعد ان اجتزنا المفرق أظهرت العلامة، وأطلق أبو صهيب النار على سسبورتس مرتين في رأسه ومرة اخرى في الصدر. سمعته يلفظ أنفاسه في الطلقة الاولى ومات. أتينا به آنذاك الى البئر التي حفرناها ودفناه. خلعنا ملابسه كلها وأخذنا جميع متاعه. كان معه محفظة وهوية وبطاقة هوية وبطاقة الجيش. بل كان معه سلاح خاص، ام 15 مع جهاز ليزر للرؤية في الليل. أخذناه بطبيعة الامر. كشفت القضية بعد مرور احد عشر يوماً. حاولنا تحمل المسؤولية لكن لم توافق اي وكالة انباء على نشر اعلاننا.
“علم صلاح شحادة بالعملية عندما كان في السجن. نقلنا المعلومات بواسطة زائرين. اردنا ان يعلموا ان الحديث عن مجموعة منظمة. حاول الاسرائيليون ان يتبينوا من الذي وقف وراء العملية وسربوا أسماء آخرين. ضحكنا منهم”.
بعد ذلك تحدث عن قتل الجندي ايلان سعدون في 3/5/1989. “كان معنا هذه المرة رجل ارتباط، هو محمد سواطة. عملنا في سيارتين وكمنا لجنود جلسوا في مطعم في عسقلان. في الرابعة بعد الظهر أتت حافلة عسكرية. نزل جنديان وكان واضحاً انهما خارجان لعطلة نهاية الاسبوع. سألنا الجندييان كيف يصلان دوار عسقلان واقترحت نقلهم لكنني أعلمتهم من الفور بأنه يوجد مكان واحد فقط في سيارتنا.
“قبل ان نصل الدوار، التف ابو صهيب واختطف من الجندي سلاحه. كان معنا سكاكين حادة وكان معي مسدس ايضا. أردت ان اطلق النار على الجندي، لكن أبا صهيب كان أسرع مني. ملأ الدم السيارة. بلغنا المكان الذي جهزناه أدخلنا الجثة وانصرفنا. وصلنا جباليا، وتركنا السيارة عند مدخل المخيم. كانت مهمة رجل الاتصال سواطة اغلاق البئر وتنظيف السيارة. الاسرائيليون الذين شكوا في ان شيئاً ما يحدث اطلقوا النار في جميع الاتجاهات. نجحت في الزحف والهرب.
“كان هذا في يوم الاربعاء. في يوم السبت، ابلغ الجندي الثاني والدي ايلان سعدون ماذا حدث معه. قال لهما انه رآه يدخل سيارة سبارو 88 بيضاء، وافترقنا آنذاك. أبلغ الوالدان الشرطة وبدأوا تفتيشات واسعة. ادركوا كما يبدو ان مصير الجندي الثاني كان كمصير الجندي الاول، ووجد في غزة. وعندها اعتقلوا سواطة”.
نجح المبحوح في الهرب. “في اللحظة التي ضبطوا فيها السيارة، علمت انه يجب الا ابقى في البيت. علمت انهم سيجدون في السيارة بصماتي. جرت على سواطة أعمال تعذيب شديد، انكسر وباح بكل ما عرف. وعندها اعتقل جميع اعضاء المجموعة. بعد ذلك اخذوا الشيخ ياسين وبدأوا مطاردتي. بعد ان اختفيت شهرين في غزة، قالوا لي ان اخرج الى مصر. كان لي حظ كبير. لو أمسكوا بي لجرت علي عند الاسرائيليين اعمال تعذيب فظيعة. يمكن الموت عندهم تحت التعذيب. علمت انه يجب علي ان اكون حذراً”.
رفع شارة نصر كبيرة
من سخرية القدر أنه لولا إصرار العائلة في دمشق، لما ثار في خاطر أحد ان المبحوح اغتيل ولم يمت موتاً طبيعياً. في العشرين من كانون الثاني، بعد يوم من عدم رد المبحوح على مهاتفة زوجته، استصرخ رجل الميدان من “حماس” في دبي. قام عند منصة الاستقبال في الفندق وهاتف الغرفة 130، عندما لم يجب أحد طلب ان يرى المدير على عجل. عندما فتحوا الباب تبينوا جثة الضيف. كان وجه هادئاً. رفض أبناء عائلة المبحوح قبول تشخيص سلطات دبي التي قررت ان الحديث عن “موت طبيعي”. وطلبوا قائلين “افحصوا عما حدث، الموساد اغتاله”.
ارسلت جثة المبحوح الى معهد جنائي. أعلنت سلطات دبي تعتيماً اعلامياً ورفضت جميع جهود قيادة الذراع العسكري لـ “حماس” لارسال وفد رفيع المستوى ينضم الى تحقيق ظروف الاغتيال. لم يخف حلفان غضبه على قيادة “حماس” التي “ورطتنا”، وعلى التسريبات التي لا تنقطع التي خرجت من دمشق وغزة. “كل معلومة صغيرة أنقلها يسارعون الى تكبيرها في وسائل الاعلام”، اتهم قبل ان يكف عن ابلاغ مسؤولي “حماس” الكبار بآخر ما يحدث.
يتلقى حاكم دبي، الشيخ ابن راشد ابن مكتوم إبلاغاً سرياً. دهم الاغتيال الإمارة في إحدى لحظاتها الصعبة، في ذروة أزمة اقتصادية. “في مكان ناء مثل دبي، ترجو الآن استثمارات اقتصادية، من السهل التخفي تحت غطاء رجال اعمال او سياح، للعمل بهدوء، ولرفع علامة نصر كبيرة، والمغادرة”، يقول بروس ريدل الذي عمل في الماضي في وكالة الاستخبارات الاميركية. “في عملية في الخارج، عندما تكون الضحية ضيفاً لفترة قصيرة، يكون اكثر انكشافاً وقابلية للمس به
الرابط المختصر: