لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

” أحياء يرزقون”



بقلم د. تهاني رفعت بشارات

في يوم الجمعة الخامس من يوليو عام 2024، انقلبت مدينة جنين ومخيمها إلى لوحة حزينة مشبعة بالسواد والحزن. ارتفعت أرواح سبعة شهداء إلى السماء، تاركين خلفهم جروحاً لا تندمل في قلوب الأمهات والآباء والأحباء. كان بينهم أب وابنه، وأخ لشهيد مضى، أحمد العموري، الذي لحق بأخيه الشهيد جميل العموري، وأخوان هما حارث وهمام حشاش.

كان الخبر صاعقاً على الجميع، وقد رأيت أمي تبكي بحرقة وتردد: “صبرك الله يا صديقتي نجوى، يا أم معاذ”. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد عرفت صديقة أمي، أم الشهيدين حارث وهمام الحشاش، من ابتسامتها وأخلاقها العالية ومساعدتها للناس. كانت قابلة للولادة، وعلى يديها الطاهرتين وُلد العديد من الأطفال.

لقد كان يومًا أسود اكتسى بالأسى والحزن العميق. استشهد ولداها، والأسوأ من ذلك أن بيتها قُصف وحُرق، حتى حُرمت من وداع فلذات أكبادها. همام ، الذي صودر جثمانه الطاهر، والشهيد حارث ، الذي تفحم جسده وتحول إلى رماد بلا ملامح. تصوَّر أن تفقد نبض قلبك وروحك، أبنائك في يوم واحد. الأبناء الذين كانوا حفظة لكتاب الله، محبوبين وخلوقين. وتفقد بيت العمر والأحلام وتعب السنين. يا وجع القلب، صبرك الله يا أم معاذ، وربط على قلبك يا أم الشهيدين.

كيف يرثي المرء كُل بلاده؟ يرثي شعباً بأكمله، ووطنًا يُغرِقهُ الدم، وأمًا لشهيد فقدت ابنها الآخر، وشابًا فقد أباه أمام عينيه، وصباحات موجعة تقتلع قلبك من مكانه. لا ينتهي الرثاء، لكن المصاب جلل.

في تلك اللحظات الأخيرة، كانت مكالمة المناضل همام مع أخته مليئة بالصبر والحب واليقين بالله، مشاعر مختلطة يعجز اللسان عن وصفها. أكثر ما استوقفني هو أنه رغم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان يطمئن ابنة أخته الصغيرة قائلاً: “جوجو، لا تبكي. أنا مصاب، أنا بحبك”. استمرت المكالمة لمدة 12 دقيقة، 720 ثانية، وكل ثانية كانت تمر كأنها دهر. الأنفاس متلعثمة، والخوف يعم الأرجاء، والدموع تجري بلا وجل.

بصوت طفولي، كانت تنادي: “همام! همام! عندك أكل! همام وين حارث؟”. حاول همام أن يلطف قلب الطفلة قائلاً: “أنا بحبكم كلكم”، يبعث بوصاياه المتلاحقة، يؤثر الرحيل وهم برفقته، ليكونوا آخر مشهد له في الحياة. حارث وهمام، من كان فراقهما يقسم الظهر، ويترك في القلب نُدبة، وفي الروح كسرة. ولكن عزاءنا أنهم في جنان الخُلد ينعمون وفي قلوب الأحبة خالدون.

ذهب همام، وبقي صوته عالقاً في قلوبنا. بقدر ما كان التسجيل يدل على ثباته وحسن خاتمته إن شاء الله، بقدر ما هو مؤلم وموجع للقلب. رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته. إنا لله وإنا إليه راجعون.

يا وجع القلب، وقد احترقت قلوبنا بكلمات الأم وهي تردد: “سهرت ليالي عشان أربيهم. كانت كل حياتي لأولادي، أخذوهم مني غدرًا، أخذوهم الاثنين”. وكانت تصرخ: “بتعرفوا شعور أني أتمنى أولادي بس يستشهدوا بس ما ينحرقوا؟”. الله يتقبلهم ويصبرك على فراقهم يا أمي.

هنا جنين، هنا فلسطين، حيث الشهداء يرزقون، والأمهات يقدمن أغلى ما يملكن لأجل الوطن. في هذا اليوم، ارتقت أرواح الشهداء، لكن روح فلسطين تبقى حية، صامدة، تأبى الانكسار.

كانت أم معاذ تحمل في قلبها آمالاً وأحلامًا، لكنها لم تكن تعرف أن قلبها سيكون مسرحًا لألم لا ينتهي. كانت أم معاذ نموذجاً للأم الفلسطينية الصابرة، التي تزرع في قلوب أطفالها حب الوطن والقيم النبيلة. وفي لحظةٍ، تحولت هذه الأم المثابرة إلى أيقونة للصمود، تبكي فلذات كبدها وتحتضن ألمها بحب وفخر.

هنا جنين، مدينة الشهداء والأبطال، المدينة التي لا تنكسر، ولا تستسلم. عندما نرى دموع الأمهات ونسمع أنين الآباء، ندرك أن الشهداء لم يموتوا، بل هم أحياء يرزقون، في جنان الخلد، وفي قلوب كل من عرفهم وأحبهم. إنهم الأحياء الذين يزرعون الأمل في قلوبنا، يعلموننا أن الحرية تستحق التضحية، وأن فلسطين تستحق كل شيء.

صبرك الله يا أم معاذ، وربط على قلبك يا أم الشهيدين. هنا جنين، هنا فلسطين، حيث الحياة تولد من رحم المعاناة، وحيث الأمل ينبت من دماء الشهداء. إنهم أحياء يرزقون، في قلوبنا، وفي ذاكرتنا، وفي أرضنا التي تسقى بدمائهم الطاهرة.

الرابط المختصر:

مقالات ذات صلة