لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

تأملات حول الانتروبيا المعرفية ودور الجامعة في زمن الذكاء التوليدي



أ.د. طلال شهوان – جامعة بيرزيت

مقدّمة
الانتروبيا، بمعناها الفيزيائي، هي مقياس لعدم الانتظام وارتفاع درجة الاضطراب في نظام ما؛ كلما ازداد مستوى الانتروبيا كانت العشوائية أكبر، وكلما قلّ مستواها تعاظم الانتظام. هذا المفهوم المركزي في الديناميكا الحرارية يمكن توظيفه كاستعارة عميقة في محاولة فهم ما يجري في عالم المعرفة اليوم. وهذا يلتقي مع مفهوم كلود شانون للانتروبيا المعلوماتية الذي يمتلك أهمية خاصة في علم الاتصال والمعلومات، والذي يقيس مستوى عدم اليقين أو المفاجأة في المعلومات والرسائل التي يتم تبادلها. فعندما تكون جميع النتائج المحتملة لحدث ما متساوية في الاحتمال (مثل احتمالية ظهور كتابة أو صورة عند رمي قطعة نقدية معدنية)، يكون عدم اليقين، وبالتالي الانتروبيا، في أعلى المستويات. وعندما تكون النتيجة مؤكدة الحدوث، يصبح عدم اليقين، وبالتالي الانتروبيا، صفرًا.
يمكن ربط الانتروبيا المعلوماتية بالانتروبيا المعرفية من خلال التشابه المفاهيمي والعلاقة السببية، فالأولى هي مقياس رياضي احصائي لتدفق المعلومات ويقينيتها، فيما تجسّد الثانية تأثير تلك المعلومات على الإدراك الإنساني. من هنا، يمكن اعتبار الانتروبيا المعرفية مقياسًا لحالة اليقين أو عدم اليقين التي يواجهها المتلقي نتيجة التعرض لكمية كبيرة من المعلومات بشكل يؤثر في التفكير الواضح وانتاج المعرفة. ومن الناحية المبدئية، يمكن للذكاء التوليدي المساهمة في خفض الانتروبيا المعرفية من خلال تنظيم المعرفة وهيكلتها في أنساق منظمة، كما يمكنه زيادة الانتروبيا المعرفية عن طريق نشر معلومات مضللة أو تثبيط التفكير النقدي وإضعاف المهارات المعرفية.
ليس المقصود من هذا المقال تقديم أحكام قيمية بخصوص الذكاء الاصطناعي، وإنما تسليط ومضة ضوء بطريقة نقدية على “الانتروبيا المعرفية” المتولدة عن آثاره البنيوية في الوعي البشري وصناعة المعرفة، تركز على التحديات التي أصبحت تؤثر على نطاق واسع بحرفة التفكير، والاستقلالية المنهجية، وموقع الجامعة كمصدر راسخ للمعرفة العملية والتحليلية والنقدية.

فروسية السؤال: “ماذا، كيف، لماذا”
علاقة الإنسان مع المعرفة تبدأ من السؤال؛ فهو أداة العقل التّواق، والبوابة التي يُعاد عبرها تشكيل العالم وفهمه. في عبارة منسوبة للفيلسوف هايدغر يرد أن “السؤال هو تقوى (أو ورع) الفكر”، بمعنى أن السؤال هو الممارسة التي تُطهّر الفكر من الادعاء، وتحفظ انفتاحه على استكشاف الوجود.
يُمثّل سؤال “ماذا” أداة الملاحظة الأولى التي يكشف الوعي من خلالها الظواهر وحدودها وماهيتها، وبذلك تتشكل الأرضية الوصفية التي تُبنى عليها الخطوات اللاحقة. ينتقل العقل بعدها إلى سؤال “كيف”؛ سؤال الآلية والسببية، حيث تُختبَر الفرضيات، ويُصاغ النسق المنهجي القادر على إنتاج معرفة علمية راسخة، قابلة للتحقق وإعادة الإنتاج، إذ لا معرفة دون نسق يربط الأشياء بأسبابها كما قال الفيلسوف كانط.
وحين يستقيم المنهج، يرتقي الوعي إلى مصاف السؤال “لماذا”؛ سؤال الغاية والمعنى، الذي تتداخل فيه الرؤية الفلسفية مع الاستبصار العلمي ليُعاد وضع الظواهر في أفقها القيمي والإنساني، فيبحر الوعي نحو آفاق متجددة. ومن هذا المثلث تتفرّع بقية الأسئلة، مثل أين ومتى ومن، لتتموضع المعرفة في سياقها الزمكاني والإنساني، وليتدرّج الوعي من الملاحظة إلى التفسير، ومن التفسير إلى الغاية؛ في رحلةٍ تتقاطع فيها حرية التفكير مع صرامة المنهج ومسؤولية المعنى.
وفي ضوء ما تشهده السنوات الأخيرة من قفزات في تكنولوجيا المعلومات، ومع تطوّر نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي على وجه التحديد، أصبح بالإمكان توليد الإجابات بسرعة تفوق قدرة الإنسان على فحصها أو مساءلتها. هذا التحوّل يؤدّي، ضمن تأثيرات متعددة، إلى خلخلة البنية التقليدية للسؤال المعرفي، بمستوياته وتنوعاته.
فالأنظمة الذكية باتت تُعرِّف الظواهر وتوصفها وتعيد صياغتها تلقائيًا، ما يقلّل من دور الفرد في بناء ملاحظته أو تطوير حساسيته تجاه التفاصيل، ومما يلقي بظلاله على سؤال “ماذا”. كذلك، فإن المنهجيات العلمية التقليدية باتت تتراجع أمام خوارزميات معقدّة قد لا تكون قابلة للفحص الخارجي المحايد، فيتحوّل بالتالي سؤال “كيف” من سؤال حول الآلية والمنهجية إلى مساحة ضبابية، يستعصي ربّما على الباحث امتلاك مفاتيحها. ولأن وفرة الإجابات وسرعتها تُقلّص مساحة التأمل وتبطئ ميل الإنسان للتساؤل عن الغايات أو قراءة الظواهر ضمن سياقاتها الأخلاقية والإنسانية، فإن سؤال “لماذا” يغدو مرتبكًا ومربكًا.
هذه التغييرات الهامة تمثل بوابة لارتفاع الانتروبيا المعرفية، التي تتجاوز مقدار عدم اليقين في الرسالة نفسها (حسب انتروبيا شانون) إلى عدم اليقين في معنى الرسالة، وهو ما بتنا نلمس آثاره في الضخ الهائل للنصوص والصور والمشاهد، والتي يصعب التمييز فيها بين الحقيقي والمعدّل والزائف.

توليد السلطة المعرفية للذكاء الاصطناعي
يقول الفيلسوف جان بودريار “نحن نعيش في عالم فيه معلومات أكثر وأكثر، ومعنى أقل وأقل”. عندما يضعف السؤال المنهجي، يتراجع المعيار الذي يُميّز بين معرفة راسخة ومعرفة مُفتعلة، تقوم على بيانات غير مفحوصة بما يكفي أو استنتاجات تولّدها الخوارزميات دون أساس أمتن من الشكل اللغوي الظاهري. هذه الممارسات تزيد من احتمالية تأسيس سلطة معرفية زائفة، حيث تتحول بعض نماذج الذكاء الاصطناعي إلى مصدر لانتاج معرفة جاهزة دون مساءلة، فتتغذى بذلك نزعة الاعتماد على الإجابة السريعة بدل البحث الدقيق.
تتعمق هذه السلطة لسببين رئيسيين، على الأقل:
أولًا- الانبهار بالتقنية وبسرعتها في تقديم الاجابات، والذي يرسّخ الاعتقاد بالدقة والصوابية، ما يجعل المتلقي يميل إلى تصديق مخرجاتها دون تمحيص.
ثانيًا- وهم الحياد، حيث يُفترض أن الآلة موضوعية، بالرغم من أن النماذج اللغوية التوليدية هي في الأساس انتاج بشري، قد يحمل تحيزات ثقافية وقيمية.
على نحو خاص، تبرز قيود قابلية التفسير نظرًا للغموض البنيوي الذي تعمل من خلاله النماذج التوليدية، والذي يرفع من درجة عدم اليقين، فتتراجع إمكانية ممارسة التفكير النقدي الحر القائم على التبرير والتعليل. والنتيجة هي ارتفاع منسوب الانتروبيا المعرفية، والتي تتمثّل في تكدّس كمٍ هائل من المعلومات في مقابل ضعف في التمييز والفرز والتفحص، ما يجعل الضجيج يغلب على اللحن الصافي، والمعطى الجاهز يتفوق على السؤال الحرّ. وهكذا تزداد احتمالية قبول الجمهور لمحتوى زائف أو مشوّه على أنه معرفة حقيقية.
أثر الانتروبيا المعرفية على التعلم والتعليم والبحث العلمي
تضخم الانتروبيا المعرفية، ولاموثوقية المعلومات، يُلقي بظلاله على العديد من القطاعات، وفي طليعتها التعليم الجامعي والبحث العلمي، بحيث تتحول الجامعة من فضاء للسؤال إلى مستهلك لإجابات جاهزة. ويمكن أن يتجلّى ذلك في ارتفاع حالات الانتحال والغش الأكاديمي، ضعف مهارات صياغة الأسئلة المعرفية لدى الطلبة، تراجع قدرات الطلبة على بناء الحجج العلمية والمنطقية، تغييب الجدل العلمي بوصفه أساسًا للتكوين الجامعي، وانتشار دراسات ذات أسس منهجية هشّة، تعتمد على مصادر غير مُتحقَّق منها.
يقول الفيزيائي المعروف لودفيغ بولتزمان: “لا شيء أكثر أهمية من البحث عن الحقيقة؛ ولا شيء أقل أهمية من الطريقة التي نصوغها بها”. تلك مقولة أثارت التباسًا لدى كثيرين، ولكنها تكتسب بعدًا معاصرًا شديد الوضوح في سياق الانتروبيا المعرفية. فالشكل اللغوي لم يعد ضمانة للحقيقة، بل غدا أحيانًا قناعًا يخفي غياب السؤال المنهجي، الذي يمثل المعيار الحقيقي لحفظ معنى المعرفة وصدقيتها.
في ذات السياق، من الملاحظ أن التوسع المطّرد في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بات يقود إلى انكماش في دور العديد من الجامعات كمراكز إنتاج معرفة تطبيقية، في مقابل صعود شركات التكنولوجيا التي تقدم معرفة سريعة. ويمكن استنتاج ذلك من بيانات الابتكار التي تشهد ازديادًا كبيرًا في براءات الاختراع من طرف الشركات الكبرى في مجالات متصلة بالذكاء الاصطناعي، مما يشير أن الابتكار التقني – وليس البحث الأكاديمي – صار المحرّك المركزي لتطوير هذا القطاع. هذا الانزياح باتجاه التكنولوجيا المدفوعة بالربح يُسهم في ظهور جهات مستفيدة من تعميق الانتروبيا المعرفية، ومن تهميش الفلسفة والمنهج والغاية، لصالح كفاءة تقنية سريعة، قد تكون محدودة الأفق والمرامي.
في نفس الوقت، فإن ذات الانزياح بات يفرض على الجامعات مهمة مزدوجة؛ من جهة هناك ضرورة ملحّة لتطوير مناهجها وطرائق تعليمها بما يخدم المساهمة في انتاج مهارات ومعارف تقنية وتطبيقية، ومن جهة أخرى يجب على الجامعات إخضاع الذكاء الاصطناعي وأدواته ومخرجاته للدراسات التحليلية والنقدية، بما ينسجم مع متطلبات المعرفة الشاملة تقنيًا وإنسانيًا.

خاتمة
يُفرط الذكاء الاصطناعي في توليد الكلمات، التي هي مادة الواقع. ولكي لا يتحول الواقع إلى خداع لغوي من الضروري ألا نتخلى عن حقنا في إعادة تسمية الأشياء وإعادة بناء معانيها وفق رؤيتنا الانسانية. يقول الشاعر رسول غمزاتوف “إن الإنسان في حاجة إلى عامين ليتعلم الكلام، وإلى ستين عامًا ليتعلم الصمت”، وهو بذلك يشير إلى أن الكلام مهارة فطرية، فيما الصمت هو مهارة معرفية وأخلاقية عليا، تحتاج عمرًا طويلًا كي يدرك الإنسان عمقها. أما محمود درويش فيقول “أنا لغتي، أنا ما قالت الكلمات كن جسدي، فكنت لنبرها جسدًا”، مما يدلل على أن تأثير الكلمة يطال الوجود نفسه كجسدٍ وكمعنى للوجود. كلتا المقولتين تلتقيان في مفترق واحد مفاده أن ليس كل ما يُقال يستحق الانتباه، وأن الكلمة المدروسة والصمت المتأمل ضروريان لتوليد المعنى واحتضانه، في زمن باتت فيه القدرة الانجابية للخوارزميات تفوق بكثير قدرات الذهن البشري على الاستيعاب.
إن تخفيض الانتروبيا المعرفية يشكّل ممرًا لإعادة الاعتبار للنسق المنهجي والدلالي الذي يتآكل تحت ضغط المعرفة السريعة والأنية. من هنا، يبقى صون المعرفة بطابعها الانساني مرهونًا بالقدرة على صون المسافة النقدية وحرية السؤال في مواجهة انتروبيا توليدية تُتخم الواقع بإجابات جاهزة على حساب الأسئلة المعرفية النقية. ولكي يتأتى هذا فلا بد من حماية الجامعة كفضاء للتفكير وللمعنى، وذلك فعل أخلاقي بقدر ما هو معرفي.

الرابط المختصر:

مقالات ذات صلة