
لا تُرهق قلبك… فإرضاءُ الناس سُرابٌ لا يُدرك.. بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في عالمٍ يركض فيه الجميع خلف المظاهر، وتتعدد فيه الأقنعة، تظلّ عبارة الإمام الشافعي رحمه الله “إرضاء الناس غاية لا تُدرك” كالسراج الذي يُنير درب الحائرين، والبلسم الذي يُداوي جراح المتعبين من اللهاث خلف القبول والرضا البشري. هي ليست مجرد كلمات، بل مرآةٌ لحقيقتنا، ودرسٌ كُتب بمداد التجارب، فكم من الأرواح ذبلت لأنها ظنّت أن رضا الناس يُشترى، وكم من النفوس انكسرت حين لم تجد التقدير رغم ما بذلت!
أرضِ الله أولاً، فهو الأدرى بنيّتك، الأعلم بصدقك، والأقرب إلى قلبك من كل من حولك. ثم أرضِ نفسك، دلّلها كما تُدلّل أمٌّ طفلها، صافحها كل صباح، وقل لها: “كفى ما كان، اليوم لكِ لا لغيرك.” لا تكن عبداً لنظرة، ولا أسيراً لكلمة، فالناس لا ترضى حتى عن نفسها، فكيف بها ترضى عنك؟ عش كما أنت، على فطرتك، بنقائك، ولا تلوّن نفسك كلّ يومٍ بلونٍ جديد لتناسب أذواقهم المتغيّرة، فإنك لست لوحةً في معرض، بل إنسان له كينونته، ومكانته، ورسالة لا تشبه سواها.
إن سعادتك ليست في تصفيق الآخرين، بل في أن تغمض عينيك كل ليلة وأنت راضٍ عن نفسك، مطمئنّ القلب، نقيّ السريرة. لا تغيّر نفسك لتنال إعجاباً لحظيّاً، بل غيّرها إن شعرت أنك تستحق الأفضل لأجلك، لتزهر أكثر، لا لترضي من لا يرى جمالك الحقيقي. لا تُضنِ قلبك بمقارناتٍ تُذيب المعنى، فخلف الصور المصقولة على الشاشات وجوهٌ باهتة، وقلوبٌ منهكة، وأقدارٌ معلّقة لا تُفصح بها الابتسامات.
كن مثل الجبل، لا تهزّك ريح الشكوك، ولا تقصمك عبارات اللوم، ولا تُغرِك رياحُ المديح العابر. واذكر دومًا: الكمال لله وحده، ونحن بشرٌ نُخطئ ونصيب، وما نحن إلا محاولاتٌ متكررة نحو الأفضل، فاغفر لنفسك، ولا تقتلها في سبيل رضا الآخرين. ضع رضا الله نُصب عينيك، ورضا نفسك في كفّك، وسِر بثقة، فما دام قلبك عامرًا بالإيمان، وخلقك مستقيماً، ونواياك صافية، فامضِ ولا تخشَ شيئاً.
الحياة قصيرة، فلا تستهلكها في إرضاء من لا يرضى، ولا تُفرّط بذاتك لتُجمّل صورةً أمام الآخرين. كن أنت، كما أرادك الله أن تكون: حرّاً، كريم النفس، نقيَّ الروح، لا تنحني إلا لسجدة، ولا تركض إلا لطاعة، ولا تتبدّل إلا لترتقي.