فلسفة الماء في الحياة: دروسٌ في الانسياب والتجاوز
بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
تعجبني فلسفة الماء في الحياة، لأنها تُشبه حكمةَ العظماء، وهدوءَ الواثقين، وصبرَ العارفين. الماء، هذا العنصر الصامت الشفاف، ليس مجرد سائل يتسلل بين الصخور، بل هو معلّمٌ حكيمٌ يدرّسنا أبلغ الدروس دون أن ينطق حرفاً. في كل قطرةٍ من مائه، رسالة، وفي كل مجرى يسلكه، معنى، وفي كل انسياب، حكمة تتجاوز حدود اللغة.
إذا اعترض طريقه حجر، لم يتوقف ليبكي على العثرة، ولم يصرخ في وجه الصخر، بل ببساطة يمضي… يخترقه إن استطاع، أو يلتف حوله، أو يحفر في الأرض مجرىً جديداً… لكنه في كل الأحوال لا يعرف التراجع. يُشبه الماء في فلسفته الطيور المهاجرة، لا تتوقف عند سحابٍ ثقيل، بل تعلو وتحلق حتى تعبره، ويُشبه الشجرة التي تميل مع الريح، لا تنكسر بل تتمايل حتى تهدأ العاصفة.
الماء لا يحقد على الجبال التي تعترض طريقه، بل يجعل من قساوتها دروباً جديدة لانسيابه. يتحدى بمرونته لا بعناده، ينتصر بسلاسته لا بعنفه. حين لا يجد طريقاً، لا يلعن الظلام، بل يشعل ضوءاً في الأرض، يحفر، ويبدع، ويُبدّل المسار، لكنه لا يفقد هدفه: أن يصل.
وفي هذا المشهد الطبيعي العابر، يكمن تشبيه بديع لكل من يسير في دروب الحياة؛ نحن كالماء، نواجه العوائق: ظروفاً قاسية، أحلاماً معلّقة، قلوباً مغلقة، وأبواباً موصدة. البعض يقف متجمداً أمام الجدار، ينهار، أو يصرخ دون جدوى. لكنّ الحكيم منّا، من تعلّم من الماء أن يتجاوز دون ضجيج، أن يمرّ كنسمة في قلب الصخور، أو أن يبتكر طريقاً جديداً دون أن يفقد نقاءه وصفاءه.
الماء لا يتكلم، لكنه فيلسوف. لا يملك قدميْن، لكنه يطوف الأرض. لا يُحمل على الأعناق، لكنه يحيا في القلوب. لا يُرى في الظلام، لكنه يصنع الحياة في الأعماق.
تجاوز… واستمر… وكن على يقين بالله، فكلنا راحلون، والزمن كفيل بمداواة أي جرح.
افعل كالماء، لا تستسلم، لا تتكلّم كثيراً، فقط تابع الانسياب حتى تصل، فالله مع الصابرين.